ربما أنه لا اختلاف على أن العراق يدفع الآن ثمن مرحلة بائسة بدأت بذلك الانقلاب الدموي، الذي خلافا لواقع الحال سمي ثورة، في عام 1958، واستمرت مع سلسلة التحولات المتلاحقة والمغامرات والمؤامرات التي كانت ذروتها غزو الكويت، وصولاً إلى الاحتلال الأميركي في عام 2003 الذي كان خطأه أو جريمته أنه ألغى الدولة العراقية بكل مكوناتها وفتح الأبواب على مصاريعها لهذا الإرهاب الذي أصبح اسمه "داعش"، وللتدخل الإيراني السافر الذي تحول إلى احتلال غاشم بكل معنى الكلمة.

Ad

وهكذا، وبالتالي فإن الذين عادوا إلى العراق من المنافي القسرية والإرادية على ظهور الدبابات الأميركية لم يحاولوا أن يقيموا دولة وفقاً لمعطيات الدول الحديثة، ونقيضاً لدولة الاستبداد والقمع التي سادت منذ انقلاب عبدالكريم قاسم وشركائه في عام 1958 واستمرت على نحو أكثر دموية في عام 1968، بل بادروا إلى تقاسم الغنائم برعاية بول بريمر، وفقاً للمحاصصة المذهبية والعرقية الجائرة، فحصل ما حصل وانتهت الأمور إلى ما انتهت إليه، وأصبحت لملمة شمل بلاد الرافدين ليست متعذرة فقط، بل شبه مستحيلة.

إن المشكلة-المأساة تكمن الآن في أن وكلاء ورموز الهيمنة الإيرانية يرفضون المس بالمعادلة الطائفية والعرقية التي أرسى قواعدها بول بريمر، والمقصود هنا هو حزب الدعوة ونوري المالكي وهادي العامري والحشد الشعبي وباقي الشراذم الطائفية، وليس العرب الشيعة الذين كغيرهم من أبناء العراق تحلّقوا حول انتفاضة السيد مقتدى الصدر، وها هم يتمسكون بمنطلقاتها، والذين هم الأكثر حماساً لإلغاء المحاصصة المذهبية التي أعطيت أسماء وعناوين حزبية.

إن هذا هو واقع الأمور، وإن هذه هي حقيقتها، ولذلك فإنه لا يمكن القضاء على "داعش" المحمي بالرغبة الإيرانية، ولا يمكن إنهاء معادلة بريمر، ولا القضاء على "تناهش" العراق طائفياً وعرقياً، ما لم تُكسر شوكة الايرانيين وأتباعهم ووكلائهم في هذا البلد الذي طالت مأساته أكثر من اللازم، والذي غدت وحدته مهددة بالفعل، وهذا يتطلب التفافاً جدياً وفعلياً من المكونات العراقية كلها حول السيد مقتدى الصدر الذي أعلنها واضحة وصريحة: "إننا مسلمون قبل أن نكون سنة، وإننا مسلمون قبل أن نكون شيعة"... وهذا هو الصحيح، وهذه هي الحقيقة.

ثم، وفي النهاية، هل من الممكن يا ترى تصور برلمان عراقي يقول أعضاؤه كل هذا الكلام الذي قالوه والذي عنوانه، إضافة إلى الغاء معادلة المحاصصة الطائفية، "رحيل ومغادرة الرؤساء الثلاثة: رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس المجلس النيابي"... هل كان بالإمكان تصور هذا قبل عام 2003؟!

 إن في هذه اللوحة السوداء نقاط ضوء من بينها نقطة الضوء... أليس كذلك؟!