صدرت حديثاً عن مؤسّسة الفكر العربي في بيروت ترجمة كتاب {التكامل والتعاون في إفريقيـــا: صعـوبة اللقـــاء الممكن بين النظريات والوقائع}، إعداد الباحث في العلوم السياسية غي مفيلّ، نقله إلى العربية نصير مروّة. الناشر الأساسي هو دار لارماتان L›Harmattan  التي أطلقت الكتاب سنة 2014.

Ad

انطلق غي مفيلّ من إشكاليّة أساسيّة تتمثّل في ما إذا كانت  ثمة نظريات قائمة فعلاً حول التكامل الأفريقي، ذلك أن السياسيّين والفلاسفة الأفارقة صاغوا خطاباً تكاملياً أفريقياً يعود إلى بداية الاستقلالات، بل إلى مـا قبلهـا. غير أن هذا الخطاب لم يحل دون استشعار نوع من اللقاء العسـير بين نظريات التكامل هذه والوقائع في إفريقيا. لذا السؤال المعرفيّ الأساسي الذي يطرحه غي مفيلّ في كتابه، يدور حول مـا إذا كان بالإمكان دراسة التكامل الأفريقي انطلاقاً من النظريات العامة للتكامل، أي من الأطر التي جرى استخلاصها وبناؤها تبعاً لمعاينة البناء الأوروبي؛ وهو ما أفضى إلى البحث في محاولات التنظير حول التكامل انطلاقاً من خطابٍ أفريقي خالص، ومدى تطابق النظرية مع الوقائع أو العكس.

وبالتالي، تمحور هـذا العمل حول حركتين كبريين اثنتين: إفريقيا في مواجهة نظريات التكامل العامة، والمحاولات الأفريقية لبناء نظرية في التكامل.

 يشمل القسم الأول محتوى الأطروحات الوظائفية والوظائفية الجديدة وإمكانية أن ينبت لهمـا جذور في الواقع الأفريقي، النظـريات الحكومية وتطبيقها في إفريقيا أيضاً، إفريقيا في مواجهة نظـريات التحويلات السياسية والمؤسّسية الجـديدة، نتائج التحويلات والانتقالات المؤسّسية على المجموعات الاقتصادية الإقليمية CER وعلى الدول الأفريقية. في حين يتناول القسم الثاني مقــاربــة التكــامل الفـوري المباشر، ومقــاربــــة التـكامل  بالمـراحــــل المتتـاليــة.

طابع تقني

يعاين المؤلّف التكامل الأفريقي، بالاستناد إلى البريطاني دافيـد ميتراني David Mitrany  ومنهجه الوظائفي في التكامل. فلئن كانت النظرية الوظائفية تنطلق من الدور الذي تشغله الوظيفة في مجمّعٍ ثقافيّ أو مُتَّحَـدٍ ثقافي واجتماعي أو سياسي معيّن، فإن دافيـد ميتراني  يرى ضرورة أن تُبتدَع، بموازاة ذلك، مؤسّسة تستجيب لحاجات اجتماعية معيّنة، أي لشغل وظيفة مخصوصة. أما حجّته في ذلك، فهي أن تكاثر حاجات المجتمعات الحـديثة وتعقيدها يجعلان من تنسيق الدول في ما بينها، في إطار المنظّمات الدولية ذات طابع تقني والتي لا نفوذ سياسياً لها، أمـراً لا غنىً عنه. صاغ ميتراني، في أعمـاله المختلفة، أوّل نظرية متماسكة للتعاون الدولي. وقد شكّلت منظّمة {الشراكة الجديدة لتنمية إفريقيـا} (نيباد)، التي أُنشئت في العام 2001، مسيرة وظائفية في سعيها إلى تحقيق أهـداف ثلاثة رئيسة، هي النهوض بعملية النمـوّ والتنمية المُسـتدامة، واجتثاث الفقر العام والحـادّ، ووضع حدٍّ نهائيّ لتهميش إفريقيا في السـيرورة الجارية للعـولمة.

 ووفقاً لمـا ذهب إليه ديفيـد ميتراني، الذي يعتقـد أن منطلق العمل ينبغي أن يكون {حاجات} الشـعوب، فإن إفريقيا حافظت في إطار {نيبـاد} على أولويات يمكنها أن تُحقّق التكَامل بين الشعوب والدول بأفضل ممّـا تفعل العلاقات السياسـية المحضة. لكن ذلك يتطلّب منظّمات ومؤسّسات متخصّصة مرتبطة بعضها ببعض، وعابرة للأوطان والقوميات. فالمقصود هنا هـو إحاطة الانقسامات السياسية بنسيجٍ من الأنشطة والوكالات الدولية التي يتمّ فيها وبفضلها التكامل التدريجي لمصالح الأمم كافة ومتطلّباتها. لكن مسـألة إنشـاء مؤسّسات ذات طابع متخصّص، من دون نفوذٍ سياسي، ظلّ في أفريقيا موضع سجالٍ ونقاشٍ مفتوحين. فلئن أرادت {نيباد} أن تكون وكالة متخصّصة في تحقيق مشـروعات التنمية في أفريقيا وإنجـازها، ممـّا يجعل منها جسـماً تقنياً أو هيئةً تقنية، فإنهـا ظلّت تحت سقف سـلطة الاتحاد الأفريقي السياسية والإدارية. إذ إن مَن يقرّر داخل الاتّحاد الأفريقي، هُم رؤسـاء الدول والحكومات؛ وليس لأمـانته العامة دور آخـر غير ترويج مشروعات التنمية ذات البعد الإقليمي، والتنسيق، والمواءمة بين المشروعات، والمساعدة في تشغيل الأموال.

التكامل من منظور الوظائفية

الوظائفية الجديدة كمنحى جديد في تصوّر مفهوم الوظائفية والتكامل الأوروبي، تمّت صياغتها انطلاقاً من أفكار إرنست هاس Ernest Haas وليون لينـدبرغ   Leon Lindbergاللذَيْن يثمّنان وظائفية ميتراني، ولكنّهما، بخلافه، يُعيدان الاعتبار إلى السلطات السياسية. هكـذا، تأسست سلطة عليا داخل المجموعة الأوروبية للفحم والفولا (CECA)، لتنسيق إنتاج الفحم والفولاذ في فرنسا وألمانيا الاتّحادية وإيطاليا وبلدان البينيلوكس. في حين أكّد مؤلِّفون وكتّاب كثر، أن الوظائفية الجديدة لا يمكن أن تنطبق على أيّ نموذج تكاملٍ آخـر غير النموذج الأوروبي، فظلّت كونيّة أو جامعيّة الوظائفية الجديدة قيد السجال. فذهب البعض إلى أن النظريات الوظائفية الجديدة لم تفشل في محاولاتها توقّع مجريات التكامل الأوروبي في سنوات 1960 و1970 فحسب، بل فشلت أيضاً في محاولاتها تفسير التكامل في أجزاء أخرى من العالم.

وعليه، قيّم  غي مفيلّ الوظائفية الجديدة في أفريقيا انطلاقاً من نقاط عدّة هي: التأليف بين المحدِّدات الوظائفية والمحدِّدات الاجتماعية السياسية؛ تنسيق السلطات السياسية للنشاطات الاجتماعية الاقتصادية؛ إمكانية التشابك انطلاقاً من قطاعٍ ما؛ مجهودات التقارب بين النُخَب القومية. وبناء عليه، استعرض المؤلّف تاريخ بعض المجموعات أو التجمّعات الأفريقية، معتبراً أنها تشير إلى التعاون أكثر من إشارتها إلى التكامل، ابتـداءً بمنظّمة الوحدة الأفريقية (OUA)، التي هي أوَّل أكبر تجمّع مؤسّسي أفريقي، رسمت لها شرعتها، التي وُقعت في 25 مـايو 1963 في أديس أبابا (الحبشة)، هدفاً هو تشجيع التعاون الدولي، مع أخـذ شرعة الأمم المتّحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان في  الاعتبار.