كلما رأيت بنتاً حلوة أقول يا سعاد
دائماً عندما أصطحب كتاباً معي في السفر أتجنب أخذ رواية حزينة فيها سيرة للموت أو تحتوي على أحداث مخيفة، لكني نسيت هذه القاعدة الممنوعة حين اصطحبت رواية "كلما رأيت بنتاً حلوة قلت يا سعاد" للروائي الإنسان الجميل سعيد نوح، وكنت قد قرأت له رائعته" أحزان الشماس" وكتبت عنها مقالاً قبل أن أقرأ روايته الأولى هذي التي سمعت بها عند طريق الصديق د. عباس الحداد الذي ذكرها لي بإعجاب، مما دفعني للبحث عنها وشرائها من معرض القاهرة للكتاب لهذا العام، وعندما بدأت بقراءتها في الطائرة اكتشفت أنها رواية لا تتكلم فقط عن الموت بل هي رواية الموت بذاته، ونسيت حذري ومخاوفي وحالة النعاس الشديدة التي كانت تطبق علي بسبب طول ساعات السفر وإرهاقها، كلها نسيتها فجأة تحت طوفان وفيضان المشاعر التي ابتلعتني بعنفها وصدقها وتجسدها الطاغي، الذي يشعر القارئ أنه ابتُلع في قلب دوامة عين عاصفة من الأحاسيس وجيشانها يغرق ويمتص وعي القارئ وينسيه حتى نفسه، وهو ما حصل معي حيث غاب المكان وطار النعاس وامتصتني عاصفة المشاعر حتى طوتني فيها، ولم أسترد نفسي إلا عند نهايتها ولستُ واثقة إلى اليوم من أني برئت وتعافيت منها، فهي رواية سطوة الأحاسيس والمشاعر الصادقة التي كُتبت من نزيف شبكة الخلايا العصبية والحسية للكاتب سعيد نوح الذي كتبها من زلزال روحه حين فقد أخته الجميلة الملائكية الصفات ككل أبناء الموت سعاد في عمر 20 عاماً وثلاثة شهور بمرض سريع مداهم بحمى السحايا، يعني لم يكن موتاً بل بتراً سريعاً لبنت تضج بالحياة صرع كل من حولها، وأكثرهم تأثراً كان أخاها سعيد نوح الذي راح يكتبها بمشاعره المبتورة النازفة بدمها الحي، وعادة في الكتابة تأتي بعد مرور العاصفة وسكون إعصارها حتى تكون متروية عاقلة منطقية الأحداث ومكتوبة بدم هادئ بارد، لكن سعيداً كسر هذه القاعدة وكتبها وهو يعبر حريقها، ومع هذا أتت ناضجة حتى وهي ملتهبة بنارها التي لم تخمد، وجعلت من سعيد نوح روائياً رائعاً وإن كانت هي روايته الأولى وهي الجحيم والمطهر والجنة، فقد نقلته من شاعر وقاص إلى مصاف الروائي.حدة المشاعر بهذه الرواية وضعتني في حيرة حتى إنها أنستني عادتي في التدوين ووضع خطوط ونقاط تحت ما أريد أن أنوه عنه لكتابة المقال، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يحدث معي إلا في هذه الحالة التي تشل الوعي ببركان المشاعر الفياضة بالوجع والألم والصدق العاري من كل تزيف الكتابة، لذا جاءت نيئة لم تمر بمختبرات التروي والتبصر والانتقائية، ولدت في حالة عصبية من الاضطراب العاطفي الذي انعكس على الكتابة بهذا الشيء الذي يصعب وصفه بسبب خلطة الرسائل والأصوات والتأملات السردية وإن جاز الصراخ واللطم أيضا هو وارد فيها.
هذه الرواية ذكرتني بأول نص شعري سردي طويل كتبته وعلق عليه الكبير بحق "يحيى حقي" حين أحب أن يوجهني إلى دفق المشاعر المحلقة في النص وتمنى فيها لو أنه في تحليق رأسه تمنى لو أن قدميه مثبتة في الأرض، لكنه راجع نفسه وعتب عليها أن تقول للكاتب الذي يأتيه النص بدفقة واحدة تمهل وتوقف عن ولادته، هذا الكلام ينطبق على رواية سعيد التي ولدت روايته بنفس ودفقة واحدة طويلة وبلا توقف، وهذا أمر لا يحدث كثيراً إلا في حالات النزف أو الانخطاف أو الشغف الصاهل.سعيد نوح لم يأخذ مكانته الحقيقية ككاتب في الإعلان والأضواء الرائجة لمصاف الكتاب الكبار الذين ميزتهم الدولة وهو يستحق هذه المكانة بجدارة حاله حال آخرين مثله بعيدين عن صناعة الترويج والتطبيل الدعائي، وهو بحد ذاته شخصية دراميتيكية متأملة صالحة ليكتب بها ويُكتب عنها، وهذا مقتطف من الرواية: "ذلك الموت الذي أخذ منه الولد المهرج، كيف مات من قبل ولم يدر؟ وهل موته الثاني سوف يكون هكذا؟ تتغير صورته فقط!! ببساطة شديدة هل ستموت فيه المأساوية ويصير إنساناً همجياً مثلاً أو أي شكل آخر يرتديه أو يُدخله الله فيه؟ أم سيكون موتاً كما كان لأخته؟ هذا الولد لابد له من تمثيل دور صغير في ملهاة السعادة".