«حار جاف صيفاً»!
لم يكن اسم نورا الشيخ من الأسماء المألوفة بالنسبة إلي حتى انتهيت من مشاهدة الفيلم الروائي القصير «حار جاف صيفاً» (مصر وألمانيا/ 2015) في عرضه العالمي الأول بمسابقة «المهر القصير» لمهرجان دبي السينمائي في دورته الثانية عشرة (9 – 16 ديسمبر 2015). أيقنت أنني أمام موهبة رائعة صاحبة قلم رشيق، ولديها القدرة على الكتابة بإيجاز وتكثيف. في 32 دقيقة، هي مدة عرض الفيلم، أخذتنا نورا الشيخ في رحلة إنسانية شجية عن الأب «شوقي»، الذي يعيش أيامه الأخيرة بسبب إصابته بمرض السرطان، والفتاة الشابة «دعاء»، التي تعيش آخر يوم من أيام العزوبية، وتتأهب لاستقبال ليلة الزفاف. أي أننا حيال مقابلة بين الحياة والموت غطتها نورا الشيخ بغلالة رقيقة من المشاعر الإنسانية الفياضة، وجاء المخرج شريف البنداري ليختزلها في لغة سينمائية رصينة للغاية.
تدور أحداث فيلم «حار جاف صيفاً» حول الابن «أحمد»، الذي حالت ظروفه دون الحصول على إجازة من عمله كمحام بإحدى الشركات الكبرى ليرافق والده «شوقي» إلى عيادة الطبيب الألماني الذي يزور مصر لمدة يومين، ويكتفي بتجهيز ملفه الصحي، وزجاجة الماء المثلج، في حقيبة بلاستيكية. لكن الأب، الذي هده المرض وهزمه اليأس من الشفاء، يفقد الحقيبة في السيارة الأجرة التي استقلها مع الفتاة «دعاء» (ناهد السباعي) وصديقتها «عبير» (دنيا ماهر) ويقودها «سعد» (محمد عبد العظيم)، الذي تربطه علاقة وثيقة بالأب وابنه، ويبدأ «شوقي» رحلة البحث عن الفتاتين فتصبح الفرصة مواتية للمخرج لاستعراض القاهرة (كاميرا ڤيكتور كريدي) بصخبها وضجيجها وزحامها الخانق، وموجة الحرارة التي تم الإعلان أنها ستستمر 3 أيام، وستصل إلى 33 درجة مئوية، ومشهد بعد الآخر نُدرك أن الكهل استعاد الأمل، والأبوة، وصار يشعر بأنه يزوج ابنته، التي أسرته بحديثها عن زوج المستقبل «الديكتاتور»، الذي يُصر على انتزاعها من القاهرة التي أحبتها لتعيش مع أهله في طنطا، ورغم هذا توافق صاغرة من منطلق أن «الفقراء لا يملكون رفاهية الرفض»!شعب فقير وبائس (العروس تحمل متعلقاتها في أكياس من البلاستيك وتتنقل يوم زفافها بسيارة أجرة) يأكله المرض الخبيث (عيادة الطبيب الزائر مكتظة بأطفال وشباب ونساء وشيوخ مصابون بالسرطان) كنتاج طبيعي للدخان الملوث والطعام المُسرطن، ويُمارس بعضه «الديكتاتورية» والقهر على البعض الآخر، بينما تهرب الغالبية إلى الحجاب (إحداهن تقول: {دي بقت بلد وطلع لها حجاب») لكنه يقتنص الفرحة، ويتشبث بها، بل يتحايل للتغلب على الظروف الحالكة، ويقلب المأساة إلى ملهاة، كما فعل أصحاب السيارات وهم يُطلقون «الكلاكسات» لتهنئة عروس لا يعرفونها، ومثلما رأينا المصور – شريف الدسوقي – الذي لم يشأ أن يُفسد على العروس فرحتها يوم زفافها، بعد تأخر وصول العريس إلى أستديو التصوير، فما كان منه سوى أن أقنع الكهل «شوقي» بأن يحل مكانه، ويوافق «الأب» من دون غضاضة، ومن بعيد نلمح العريس وهو يصل إلى الأستوديو لكن المخرج، الذي اعتمد الاختزال والتكثيف نهجاً وأسلوباً، يقطع على المشهد (مونتاج عماد ماهر) بعد أن اكتمل المغزى، ووصلت الرسالة.الأمر المؤكد أن عم «شوقي» عاش لحظات جميلة اختلسها من الزمن، ربما منحته القدرة على تجاوز أزمته، وقفزت به فوق آلامه، وها نحن نراه، بعد سنوات، وهو يجلس في الشرفة وقد ربى لحيته يلتهم الأيس كريم، وكأنه شاب في سن المراهقة، وفي الخلفية تتردد أغنية عبد الوهاب «لا مش أنا اللي أبكي»، وعلى مقربة منه صورته وهو عريس للفتاة، التي نراها بعد سنوات من الزواج، وهي تُنهي مكالمتها الهاتفية مع صديقتها (أغلب الظن أنها عبير)، وتهرع إلى طفلها الباكي، فالاختزال يمثل أهمية كبيرة في فيلم «حار جاف صيفاً»، كالإشارة إلى مرض الكهل من خلال التركيز على شعر رأسه الذي سقط، والهالة السوداء التي تكاد تخفي عينيه، وهي مناسبة للإشادة بالجهد الطيب الذي بذله الفنان القدير محمد فريد، وهو يجسد دور «شوقي»، وظهوره في «نيولوك» جديد عليه بدرجة كبيرة، بالإضافة إلى النضج الذي سبغ أداءه، وتجلى في هدوئه، واستيعاب الشخصية الدرامية، والتعبير عن تفاصيلها بأيسر طرق الأداء والتقمص، بينما اتسم أداء ناهد السباعي في دور «دعاء» بالتلقائية، والوصول إلى المرحلة التي قدمت بها شخصية الفتاة الفقيرة بطريقة محببة لا تخلو من شحنة عاطفية حزينة، فالمخرج شريف البنداري أظهر براعة فائقة في تحريك طاقم التمثيل، والخروج بأفضل نتيجة منهم (انظر أداء الممثل محمد عبد العظيم في دور السائق)، ويبدو ماهراً في اختيار أفكار أفلامه (انظر «صباح الفل» (2006) و»ساعة عصاري» (2008) والمؤكد أن تجربته في «حار جاف صيفاً» تعطي مؤشراً طيباً على النتيجة التي سيأتي عليها فيلمه الروائي الطويل الأول.