تضع ورقة د. يعقوب يوسف الكندري القارئ الكويتي خاصة، أمام استنتاج جديد قد يثير الجدل وربما الاعتراض، فهو بعد تحليل نتائج استبيانه، يقول إن الديمقراطية الكويتية بتاريخها ومجالسها، هي في الواقع وليدة تراث قبائل، وما اعتادوا عليها من سنن في إدارة شؤونهم السياسية!

Ad

وبهذا ينقل القبائل من أطراف التجربة الديمقراطية الكويتية، بل من "عبءٍ" عليها كما يعتبرها الكثيرون، إلى أساس ومحور لها! ففي دراسة ميدانية طبقت عبر الاستبيانات على 3437 مبحوثاً من جميع الشرائح الاجتماعية المختلفة في المجتمع الكويتي، حاول أستاذ علم الاجتماع في جامعة الكويت، د. يعقوب الكندري الكشف عن أوجه الاختلاف والفوارق بين ذوي "الأصول القبلية" و"الجذور القبلية"، في موقفهما من مؤسسات الكويت وجملة من القيم التي يرددها الكثيرون!

 في الدراسة الأكاديمية المنشورة بدورية "عمران" التي تصدر في قطر، يفرق الباحث "بين القبيلة والبداوة اللتين تمثلان مفهومين مختلفين، كما أشار إلى ذلك المختصون والباحثون في مجال الأنثروبولوجيا والاجتماع". فما كل قبيلة مقيمة في البادية والصحراء تعيش حياة البداوة، وما كل من يعيش في الصحراء ينتمي عضويا إلى القبيلة.

شهد النظام القبلي في الكويت، يقول الباحث، تحولاً، فانتقلت القبيلة إلى نظام الدولة ضمن دور اجتماعي جديد بعد أن دخلت مرحلة التحضر مع التعليم والتطور الاقتصادي.

"عرف المجتمع المحلي، تحديداً عملية الدمج الكبير، بعد تضاعف أسعار النفط سنة 1973، وأصبح لأبناء البادية مكان ودور على السلم الوظيفي للدولة في الميادين المؤسسية المختلفة. ومع الانخراط في التعليم وتزايده استمرت المحافظة على العادات القديمة، ولا سيما تلك المرتبطة بعادات التضامن القبلي، فالتغير الذي حدث في الهيكل السكاني لم يقترن بعملية تغير بالدرجة نفسها في القيم والعادات لمصلحة الشروط المدنية الجديدة"، كما يقتبس الباحث عن د. شفيق ناظم الغبرا في دراسته عن الكويت.

تفترض دراسة د. الكندري "أن الأفراد الذين لهم جذور قبلية ينظرون إلى السياسة بدرجة من الإيجابية تفوق تلك التي عند ذوي الجذور الحضرية، وسندنا في ذلك هو أن القيم التي ورثوها عن المجتمع القبلي تعزز هذه النظرة".

إن نسبة ذوي الأصول القبلية تصل أو تزيد على نصف السكان في الكويت، ورغم ذلك فالبحوث والمجهودات الدراسية في جامعة الكويت وحياتها الثقافية لا تزال دون المطلوب بكثير، وتعود مسؤولية هذا التقصير إلى الباحثين من أبناء وبنات القبائل والحضر على حد سواء. وفي هذا البحث القيم يستعين د. الكندري بمجهودات وبحوث د. محمد الرميحي، ود. شفيق الغبرا، ود. خلدون النقيب، ود. عبدالمالك التميمي، ولكن الحاجة إلى تحديث البيانات والتحليلات لا تزال ماسة. ففي الماضي الصحراوي كان "استمرار الولاء للقبيلة أو نقضه أو تحالف القبائل هو الذي يحدد الارتباط بالأرض من عدمه". (الرميحي، الخليج ليس نفطا). ولا شك أن مثل هذه القيم قد تغيرت تماماً بعد عمليات التوطين والاستقرار، وهناك تساؤل وارد في البحث كذلك عن "مدى ملاءمة المفاهيم القبلية القائمة على القرابة والعصبية والثأر وحرية التنقل في الفضاء لمفاهيم المواطنة والهوية المجتمعية المشتركة".

ويشير د. النقيب، يقول الباحث، "إلى أن التيارات الدينية من الطائفتين السنّية والشيعية كسبت مواقع جديدة على حساب القيادات القبلية والطائفية  التقليدية". ويشير دبّي الحربي، يضيف د. الكندري، إلى "أن القبيلة تخلت عن مرشحيها التقليديين وزعاماتها التاريخية ونواب الخدمات لصالح المرشحين أصحاب المواقف والآراء السياسية بتحالف بين التيارات السياسية الأصولية والقبلية"، وهذا ما عزز عملية الاندماج الاجتماعي بين الشرائح الاجتماعية التي تلاقت جميعها عند منطلقات التعليم والدين والفكر والأيديولوجيا والانتماء الحزبي، وغيرها، كما يرى د. الكندري.

ويرى د. الكندري وجهاً إيجابياً وآخر سلبياً للتعصب القبلي، نشأ الأول فيما يؤكد "ابن خلدون" وارتبط مباشرة بالظروف الطبيعية التي عاشت فيها القبائل، وبتأثير العامل القرابي في الحياة الاجتماعية في المجتمع البدوي الصحراوي ثانياً، فالتعصب في تحليل ابن خلدون وليد الطبيعة الصحراوية وعنصر القرابة.

 "ولكن هناك أيضاً البعد السلبي لما يسمى العصبية والنعرات القبلية"، يقول د. الكندري، "ونعني هنا الأنصار للقبيلة في الأحوال كلها، وربما لا يزال هذا البعد مترسخاً في الحياة الاجتماعية المعاصرة"، ويورد هنا رأي د. عبدالمالك التميمي وقوله "إن أغلبنا قبليون في تفكيرنا، ولكن ليس بالضرورة أن يكون أغلبنا من القبائل".

والجانب المهم والخطير، يقول د. الكندري، وهو التفاخر بهذا الانتماء إلى القبيلة في مقابل التعصب ضد شرائح اجتماعية أخرى، وتكوين مشاعر معادية لهم، كما يحذر الباحث عبدالغفار نصر "وهو أمر يفرق المجتمع ويشتته، ومن ثم يستغل التعصب القبلي معولاً من معاول هدم المواطنة والهوية المجتمعية".

ويوضح د. الكندري في بحثه مفهوم القبيلة، ويقول إن هذا المفهوم لا يحظى بالاتفاق العلمي، ولهذا "ركزنا خلال البحث الميداني على فكرة الشعور بالانتماء إلى هذه القبيلة، بمعنى أننا سألنا المبحوثين أولا، هل كانوا يعتبرون أنفسهم أعضاء في قبلية، أم أنهم يصرحون بأنهم من أصول قبلية؟ وقد ساعدنا هذا على القيام بالقياسات الإحصائية التي خططنا لها".

شملت العينة المبحوثة كما ذكرنا 3437 مستجيباً كويتياً من الجنسين من مختلف الشرائح العمرية، 41.4% من الذكور و58.5% من الإناث، وشملت عملية التوزيع الجغرافي محافظات الكويت الست، وتضمنت جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية، ورغم هذا يحذر الباحث من اعتبار العينة كافية من ضخامة حجمها، لإعطاء مؤشرات واضحة وأساسية عن خصائص المجتمع الكويتي.

ولتحقيق غرض البحث اعتمدت الدراسة على جملة مقاييس:

أ- مقياس الاتجاهات السياسية نحو المشاركة والديمقراطية، ويضم ثمانية بنود ترتبط باتجاهات أفراد العينة نحو المشاركة والديمقراطية، منها "كفاءة المرشح وبرنامجه هو أساس اختياري له في الانتخابات"، و"مصلحة الوطن فوق القبيلة أو العائلة"، و"مصلحة الوطن فوق المذهب والطائفة"، و"مصلحة الوطن فوق التيار السياسي"، و"أهتم بمتابعة الأحداث السياسية الداخلية"، و"أشارك في الحياة السياسية"... إلخ.

ب- مقياس القيم الاجتماعية... ومن هذه القيم "أشارك في المناسبات والأعياد الوطنية"، و"أفتخر ببلدي لأنه يطبق الديمقراطية"، و"أحترم رموز السلطة في البلد"، و"أحرص على تكوين صورة مشرقة عن الكويت في الخارج"، و"أشعر بالشوق للكويت عند السفر"، و"أحرص على مستقبل الكويت"، ويتضمن هذا المقياس تحديد الإجابة بعبارة "موافق جداً" ثم تتدرج الإجابة خمس درجات تنتهي باستجابة "معارض جداً".

ج- مقياس الاتجاهات نحو دور وأداء المؤسسات الاجتماعية، ومنها الأمنية والدينية ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسة التشريعية. والمطلوب هنا تقييم وإبداء الرأي حول عبارات مثل: "تطبيق القانون على الجميع"، المؤسسة الأمنية "تحقيق العدالة بين المواطنين"، و"يعتبر رجل الشرطة مثالاً يحتذى به"، و"يخلو جهاز الشرطة من المحسوبية والواسطة". وفي مجال المؤسسات الدينية هناك تسع عبارات منها: "تؤكد خطبة الجمعة المنقولة تلفزيونياً قيم التسامح مع الآخر"، و"تساهم الدروس الدينية التي تنظمها الوزارة في تعزيز قيم الوحدة الوطنية"، و"تساهم الوزارة في ترسيخ قيم الوسطية والاعتدال الفكري".

وعن دور مؤسسات المجتمع المدني من جمعيات وهيئات وردت عبارات منها "المساهمة في الحد من الصراع والخلاف بين فئات المجتمع"، و"المساهمة في التوعية بالوحدة الوطنية"، و"المشاركة بإيجابية في المناسبات الوطنية"، و"التشجيع على العمل التطوعي"... إلخ.

وعن موقف العينة إزاء دور المؤسسة التشريعية، أي مجلس الأمة، وضع الباحث عشر عبارات منها الاتهامات التي توجه له من قبيل "إثارة المجلس التفرقة بين أفراد المجتمع"، و"تعميق نظام الانتخابات الحالي لمشاعر الاختلاف والصراع"، و"اعتبار أغلب نواب الأمة مثالاً للمواطن الصالح"، و"قيام الاختلافات الحالية بين الأعضاء على أساس مذهبي أو فئوي"، و"زيادة نظام الدوائر الانتخابية الحالي من الفرقة بين فئات المجتمع"، و"احترام أغلب أعضاء مجلس الأمة الرأي والرأي الآخر"، و"تعبير الآراء التي يطرحها النواب عن إرادة الشعب"... إلخ.

د- مقياس الهوية المجتمعية، وهو يتكون من 17 عبارة تمثل التراث الوطني والتجانس الثقافي ونظام المعتقدات... إلخ.

سنتناول في المقالين القادمين نتائج الدراسة وخاتمتها!