كيف يجمع الإنسان بين سلوكيات متناقضة ككتابة الأغاني والمقالات ويقدم على القتل والتشريد؟ وهل تكفي التفسيرات الدارجة لمعرفة ما أقدم عليه الجزار الصربي رادوفان كاراجيتش، وكذا هتلر وصدام وعدد من الشبان غير المشهورين الذين امتهنوا نسف أنفسم؟

Ad

أول العمود:

 حكم "التمييز" في تأكيد اختصاص القضاء في دعاوى سحب الجنسية يؤكد أن هذا المرفق بات ملجأ لعامة الناس من تعسف الإجراءات الحكومية.

***

هذا السؤال الملح يدور في ذهني على الدوام: لماذا يرتكب أصحاب المهن والهوايات الرفيعة أفعالا شريرة؟ ومن هذا السؤال تنطلق عاصفة من الإلحاح لسبر العقل الإنساني الذي يبدو يوما بعد يوم أكثر الأشياء جدلاً.

رادوفان كاراجيتس، زعيم صرب البوسنة، دانته محكمة الجزاء الدولية بالسجن ٤٠ سنة، وهو أيضاً شاعر وكاتب مقال وأغان وطبيب نفسي، تخفى فترة هروبه من العدالة بين ١٩٩٥ و٢٠٠٨ بمهنة أخرى اتقاء القبض عليه، وهي التدليك، وقد كشف أمره صحافي هندي يقيم في لندن كانت أمه ترتاد عيادة الشاعر طلبا للتدليك، كما ذكر ذلك الكاتب سمير عطالله.

والدة شاعرنا مهندس المجازر، تقول إنه كان يساعدها في أعمال البيت والحقل وكان يحترم الضيوف بشكل كبير وتعلم جيدا.

حصيلة رادوفان الإجرامية في يوغسلافيا السابقة ١١ تهمة تضمنت جرائم حرب وإبادة وجرائم ضد الإنسانية خلفت ١٠٠ ألف قتيل و٢.٢ مليون نازح بين عامي ١٩٩٢ و١٩٩٥.

الطريف هنا، وهذا جزء من غرابة طباع شاعرنا، أن ذهنه تفتق لعمل شيء ما يبقيه في بلغراد وليس التخفي في جزيرة نائية، فقد أرخى شعر رأسه وأطلق لحيته وترك الصبغ وارتدى نظارة وفتح عيادة للطب البديل ومارس حياة طبيعية حتى تم القبض عليه في حافلة عام ٢٠٠٨ ونقل لاحقا إلى المحاكمة في لاهاي ٢٠٠٩.

أليست هذه لوحة شعرية بحاجة إلى أطباء نفسانيين ومتخصصين في الاجتماع والأنثروبولوجي لفك لغز رادوفان صاحب العمود الصحافي "الحياة الصحية"!

جزء مما يجري حولنا في العالم اليوم هو في الحقيقة ضرب مختلف من السلوك الإنساني الغامض في الأصل، وإذا كانت المليارات التي تصرف على بحوث السرطان لم تأت إلا بمزيد من الحاجة للصرف على كشف غموض هذا المرض الذي تفوق أنواعه الـ٢٥٠، فمن الحري أن تصرف مبالغ مماثلة للتعرف أكثر على العقل الإنساني.

العالم احترق ويحترق من حولنا بسبب ظهور أنواع من الأدمغة البشرية، فما سبب ظهور هتلر، وصدام، وستالين، ورادوفان؟ وفي المقابل لماذا يظهر مثل بن لادن والبغدادي؟ والأصعب على الفهم أولئك الشباب المجهولين غير المشهورين الذين يقومون بنسف أنفسهم من أجل لا شيء!

لكن هل حقا أنهم يقومون بذلك من أجل لا شيء؟ حتى المتصوف له غرض مادي من طريقته... فهو يريد لقاء الله، وهذا طلب مادي في حقيقته.

غموض سلوك البشر وميلهم للانتقام والقتل يتسبب يوما بعد يوم في إفقار كلمة "إنسانية" من محتواها، وترك تلك السلوكيات دون تفسير يقود إلى نوع من الجفاف في العلاقات الإنسانية، وعدم الوعي لدوافع التعايش بين المختلفين.  

أختم قولي بأن جلسات محاكمة رادوفان كلفت غابات أشجار العالم ٤٧ ألف صفحة لكتابة المحاضر و١١٥ ألف صفحة لعناصر الأدلة.