«الثمن» أحد الأفلام التي اختيرت للعرض في برنامج «آفاق عربية» بالدورة السابعة والثلاثين لمهرجان القاهرة السينمائي (11 إلى 20 نوفمبر 2015)، لكني آثرت ألا أكتب عنه قبل عرضه التجاري، الذي جاء مطلع شهر مارس الجاري. فالمخرج هشام عيسوي نجح في أن يحفر لنفسه مكاناً على قائمة المواهب الإخراجية الجديدة، بعد فيلمه الروائي الطويل «الخروج من القاهرة»، الذي أثار ضجة كبيرة بسبب أزمته مع الرقابة، التي رفضت منحه ترخيص العرض العام، بحجة تناوله قصة حب بين شاب مسلم وفتاة مسيحية، رغم أن السينما المصرية قدمت في عام 1976 فيلماً بعنوان «لقاء هناك» إخراج أحمد ضياء الدين عن قصة للأديب ثروت أباظة اعتمد على قصة حب بين «عباس» (نور الشريف) و»إيفون» (سهير رمزي) ولم يتسبب الفيلم في فتنة طائفية، حسب زعم رقابة القرن الحادي والعشرين!

Ad

من هنا انتظرت تجربة المخرج هشام عيسوي في فيلم «الثمن» لإحساسي أنه يُحسن اختيار القضايا التي يطرحها على الشاشة، ويجيد السباحة بعيداً عن الأفكار التقليدية، وهو ما فعله هذه المرة أيضاً، من خلال توقّفه عند قضية التحريض ضد المفكرين والمثقفين، من الليبراليين والتقدميين، بحجة أنهم كفرة وملحدون، واستثمار الجهل والأمية الثقافية والإحباط الذي يسود جيل الشباب، وشرائح في المجتمع، بتصفية هؤلاء المفكرين دفاعاً عن الدين، وحماية للمجتمع من الإلحاد!

اعتمد عيسوي على سيناريو صاغته أمل عفيفي عن رواية كتبتها بعنوان «ديما»، وأظنها، مع السيناريو الذي كتبته، السر وراء الخلل الذي اعترى فيلم «الثمن»، فالأحداث تبدأ بالمحامي «صفوت» (صلاح عبد الله) الذي يستغل معاناة سائق التاكسي «مجدي» (عمرو يوسف) في حياته اليومية، وإحباطه بسبب الوظيفة التي يمتهنها، وهو الحاصل على بكالوريوس التجارة،  وعجزه عن تدبير نفقات الجراحة التي تحتاج إليها زوجته «هدى» (سهر الصايغ) لإزالة ورم خطير في المخ، وينجح في إقناعه باغتيال الكاتب الصحافي الليبرالي «جلال محمود» (عبد العزيز مخيون) بحجة أنه كافر يتعمد إهانة الدين، ويغويه أكثر بأن يمنحه مبلغاً من المال للتعجيل بإجراء الجراحة لزوجته. وبعد طول تردد ينفذ «مجدي» الجريمة ويغتال الكاتب الصحافي رمياً بالرصاص!    

باستثناء بعض التفاصيل الزائدة التي اقتضاها الخيال الدرامي، فنحن أمام نقل يكاد يكون حرفياً لقصة الكاتب والمفكر المصري العلماني فرج فودة (20 أغسطس 1945- 8 يونيو 1992)، الذي أثارت أفكاره حفيظة الجماعة الإسلامية فأقدمت على  اغتياله، لكن الفيلم عانى ترهلاً واضحاً بسبب إصرار كاتبته على الاحتفاظ بشخصية «ديما» (عنوان روايتها) اللاجئة السورية التي تقيم في مصر، فيستغل المحامي القذر أزمتها، ويتخذ منها عشيقة يمارس ضدها كل أشكال القهر والقسوة والإذلال، وعندما تهرب منه تلتقي سائقه «مجدي» فتجد لديه الأمان الضائع. لكن أداء الممثلة الأردنية صبا مبارك، بالإضافة إلى لهجتها الغليظة زادت الشخصية تنفيراً وإحساساً بأنها عالة على الأحداث تماماً مثل شخصية «محسن» (أحمد عبد الله محمود) شقيق الكاتب الصحافي، الذي استغل المحامي إدمانه ليورطه في التآمر ضد شقيقه!

اللافت أن السيناريو الذي هيأنا للتعاطف مع المفكر، ونجح في الحشد ضد أي «جماعة» تكفر الناس، ولم يفرق بين البلطجة والتكفير، انقلب على نفسه، عندما كشف أن كل ما رأيناه ليس سوى مؤامرة خطط لها محامي الشيطان، وبعض رفاقه من أصحاب المصلحة، للتخلص من الكاتب الصحافي الذي اختار بإرادته الدخول في عش الدبابير، وهي المفاجأة الساذجة التي تهدم الفيلم بالكامل، وتنسف جدته، وجديته، التي تصورناها، وتعاملنا مع الفيلم على أساسها، فالتكفير غير وارد، وتجريم اغتيال الناس من منطلق ديني غير مطروح، وغسيل المخ باسم الدين لا أساس له من الحقيقة، ومن ثم فإن تصنيف الفيلم بوصفه دعوة إلى احترام أصحاب الأفكار والاجتهادات، والحض على فهم الدين والإيمان بشكل صحيح، وهم في مخيلتنا سقط وانهار مع توالي الأحداث، واكتشافنا أننا بصدد فيلم جريمة ليس أكثر، وأننا حملناه بأكثر مما يحتمل!

«الثمن» خيبة الأمل التي خفف منها بعض الاجتهادات الفنية للمخرج هشام عيسوي، كالربط بين الكلاب الضالة والبطل، ورصد تنامي الروح العدوانية في الشارع، والتنديد بالحكومات التي نصبت نفسها القاضي والعسكري ووكيل النيابة، وتوظيف مرآة السيارة (مدير التصوير كريم حكيم)، والربط بين أغنية «يا طير يا طاير» لفيروز وشخصية «ديما»، وتحقيق التوتر من دون الاعتماد على مشاهد حركية أو تلاحمات جسدية (مونتاج منار حسني) والتنوع الرائع للموسيقى (تامر كروان)،  فضلاً عن نجاح الفيلم في هدم التوقعات المسبقة كافة، لكن انقلاب الفيلم على نفسه، والسذاجة المطلقة في وضع نهاية للأحداث جعلا المخرج يدفع «الثمن» غالياً!