قدّم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أيام أحد عروض "الخط المباشر" التي عودنا عليها كل سنة: ماراثوناً دام ثلاث ساعات و40 دقيقة غطى خلالها شتى التفاصيل من حالة الطرقات في أومسك إلى مسألة ما إذا كان يتفوه بالشتائم، لكن هذا العرض افتقر إلى البريق المعتاد هذه السنة، بما أن بوتين نفسه بدا متشائما.

Ad

 لكن هذا الحدث، وإن كان متوقعاً ومفبركاً، خدم غاية نلاحظها مع كل ظهور علني للرئيس الروسي: تعزيز أسطورة واسعة الانتشار في بلده وفي الغرب مفادها أن بوتين هو روسيا وسيد عالمه الوحيد بدون أي منازع.

لكن هذا ليس صحيحاً، قد يكون بوتين "المقرر" الذي تعود إليه الكلمة النهائية في كل مسألة سياسية كبيرة، فضلاً عن أنه يستطيع أن يعلي أي وزير أو يكسره، وباستطاعته أن يشن حرباً أو ينهيها، وإن كنا نظن أنه يتحكّم في كل ما تقوم به روسيا في الداخل والخارج فنحن لا نفهم بالتأكيد كيف تسير الأمور في هذا البلد.

أولاً، يبقى بوتين في السلطة طالما أنه قادر على استرضاء، وموازنة، وترهيب نخبة روسيا الحادة الأنياب التي لا ترحم، لكنه لا يستطيع أيضاً الحكم إلا من خلال هذه النخبة، وقد تجلى هذا الواقع بوضوح خلال حوار "الخط المباشر"، فعندما سئل عن المسؤولين الذين يبتزون المقاولين، دان أمراً مماثلاً، إلا أنه أقر بأن "هذه هي عقليتنا، وخصوصاً في ما يتعلق بالبيروقراطيين".

لا شك أن بوتين قائد قوي، لكنه ليس قوياً لأنه الرئيس بل العكس: بوتين رئيس لأنه قوي. ولكن كما برهن خلال حوار "الخط المباشر"، لا يملك بوتين كل الأجوبة، وكلما شدد على دوره كقائد مسيطر، صارت مبادراته أقصر أجلاً وانتهازية.

يقودنا هذا إلى واقع مهم: قد تكون صناعة السياسات في الكرملين قصيرة النظر وعشوائية أكثر مما تكشفه لنا أسطورة بوتين، فلا تشكّل روسيا دوماً دولة دكتاتورية مركزية صلبة، بل تتحوّل أحياناً إلى سوق أفكار يخوض خلالها أعضاء الحكومة، والمسؤولون، والمعلّقون، ومجموعات الضغط في روسيا منافسة مستمرة لإيصال أفكارهم إلى بوتين عبر الصحافة، والمؤسسات الفكرية، والتقارير، والعلاقات الخاصة.

من الضروري أن نكون صادقين وواقعيين، فلطالما برع بوتين في استغلال أوراقه، وإن لم تكن رابحة، لكن هذا لا يعني أنه يحقق النجاح دوماً، فقد تحوّل تدخله في أوكرانيا إلى حالة من الجمود والفوضى المكلفة، وحالفه الحظ لأن مغامرته في سورية لم تنفجر في وجهه، ولكن في الشؤون الخارجية، للصورة والسمعة أهمية كبيرة، وقد قدّمنا لبوتين أفضلية كبيرة بتصديقنا الأسطورة التي حاكها.

بالإضافة إلى ذلك، لم ننتبه للإشارات التي تكشف سياسة روسيا في المستقبل والفرصة المتاحة للتأثير فيها، ولا نملك أي وسيلة لاختراق الدائرة الصغيرة المحيطة ببوتين حيث تُتخذ القرارات، ولكن بفهمنا الأساليب العشوائية التي تستخدمها النخبة لتعبّر من خلالها لبوتين عن السياسات التي ترغب فيها، يمكننا أن نراقب هذه القنوات العلنية ونحصل على الأرجح على تحذير مسبق عما يُناقش في هذه الدائرة الصغيرة.

على سبيل المثال، تحوّلت خطة وضعها في مطلع عام 2014 مَن يعملون لدى رجل الأعمال كونستانتين مالوفيف، الذي يملك علاقات قوية مع الكرملين، إلى أساس الحرب على أوكرانيا، أما انتقاد موسكو بشار الأسد في شهر فبراير لتحدثه عن مواصلة القتال حتى تحقيق النصر العسكري الكامل، فشكّل، عندما نفكّر فيه اليوم، مقدّمة لسحب روسيا جزءاً من قواتها في الشهر التالي.

لا شك أن محاولة فهم كل الإشارات الصغيرة والمحاولات العلنية والسرية للضغط على الكرملين بالغة الصعوبة، ولا عجب أننا نصب بدلاً من ذلك كل اهتمامنا على بوتين ومدى تقديمه نفسه بصفته السيد الوحيد للسياسة الروسية، لكن هذا يجعلنا أكثر عرضة للخطأ في كل مرة.

في زمن الاتحاد السوفياتي كان للغرب جيوش من الباحثين والمحللين المتخصصين في "علم الكرملين"، أي ذلك الفن السري الذي يشمل محاولة توقع التبدلات في السياسات والمناورات السوفياتية من خلال الأدلة التي يستشفونها من ترتيب جلوس المسؤولين في الاحتفالات الرسمية والقراءة بين سطور الافتتاحيات في صحيفة الحزب الشيوعي "برافدا". لكن صفوف المتمرسين المهرة في هذا الفن تضاءلت اليوم دون توافر جيل جديد ليحل محلهم؛ لذلك بدلاً من ذلك، نتأمل بإعجاب آخر صور بوتين التي يستعرض فيها قوته ونفوّت فرصة فهم السياسات وراء هذه الصور.

مارك غاليوتي - Mark Galeotti