تصدرت المشهد السياسي منذ عقود عناصر ومجاميع، معتمدة في نجاحها والوصول إلى سلطة التشريع والقرار السياسي على خطابها الطائفي والفئوي والعنصري، فماذا نتوقع منها سوى اللعب على وتر الطائفية والفئوية والعنصرية والتكتل على هذا الأساس على حساب القضايا الوطنية والمعيشية المشتركة؟

Ad

الاصطفافات والتكتلات الطائفية المرفوضة التي برزت بقوة وبشكل سافر للاعتراض على حكم محكمة الجنايات على "خلية العبدلي" لم تخرج فجأة هكذا، فهي نتيجة "سياسات" سيئة معمول بها منذ وقت طويل، إذ عملت أطراف نافذة في النظام يهمها مشروع الحُكم لا مشروع الدولة، على دعم الاصطفافات الطائفية وتشجيعها منذ عقود، وتعاملت مع كل مكون طائفي أو اجتماعي باعتباره مكونا قائما بذاته، ومنفصلاً عن بقية المكونات الاجتماعية الأخرى التي تشكل جميعها النسيج الوطني.

 وبالرغم من صدور الدستور الذي وضع أسس قيام الدولة الحديثة، فإن النظام السياسي أو السُلطة لم تعمل بشكل جدّي على عملية الاندماج الاجتماعي الضرورية لبناء الدولة الحديثة، بل عملت، مع الأسف، عكس ذلك، وهو عزل بعض المكونات الاجتماعية عن بعض عن طريق سياسة "فرّق تسُد"، كما تجاهلت عملية تطوير العمل السياسي وتنظيمه على أسس مدنية وبرامج وطنية ديمقراطية، بحيث تبرز الهوية الوطنية الجامعة والمواطنة الدستورية لا الهويات الثانوية السابقة على نشوء الدولة الحديثة، واعتمدت نظام المحاصصة الطائفية والفئوية في تولي المناصب العامة، بدلا من مبدأ تكافؤ الفرص حسب الكفاءة والجدارة، وذلك بدءا من تشكيل مجلس الوزراء إلى أصغر منصب إداري.

أضف إلى ذلك أن السُلطة، وفي ظل غياب الأحزاب السياسية، ووجود نظام انتخابي سيئ (نظام 25 دائرة) يُقسّم الدوائر الانتخابية على أسس طائفية وقبلية وفئوية، تعاملت مع أعضاء مجلس الأمة على أساس هوياتهم الثانوية (طائفة، قبيلة، عائلة) وهو الأمر الذي نتج عنه تشكل اصطفافات وتكتلات لممثلي طوائف وقبائل وعوائل لا نواب حقيقيين للأمة بأسرها كما ينص الدستور، ولديهم برامج سياسية ووطنية عامة.

 وقد زاد الطين بلة نظام "الصوت الواحد" الذي انفردت به الحكومة، ناهيك عن تحالفها السياسي المستمر مع قوى طائفية (الإسلام السياسي السنّي "الإخوان والسلف" حتى آواخر العقد الماضي، ثم الإسلام السياسي الشيعي والسنّي السلفي "الجامي" في السنوات الأخيرة).

لهذا تصدرت المشهد السياسي منذ عقود عناصر ومجاميع معتمدة في نجاحها والوصول إلى سلطة التشريع والقرار السياسي على خطابها الطائفي والفئوي والعنصري، فماذا نتوقع منها سوى اللعب على وتر الطائفية والفئوية والعنصرية والتكتل على هذا الأساس على حساب القضايا الوطنية والمعيشية المشتركة؟

والآن بعد أن أصبحت الاصطفافات والتكتلات الطائفية مصدر قلق وطني عام، في ظل وضع إقليمي ملتهب وغير مستقر، فإن المطلوب من جميع الحريصين على مصلحة وطننا ووجودنا جميعاً، وطناً ونظاماً وشعباً، هو رفض التكتلات الطائفية وإدانتها بشكل مباشر وواضح وصريح باعتبارها لعباً بالنار التي ستحرق الجميع، إذ إن مناشدة الشخص الذي توجهه البوصلة الطائفية وتحدد مواقفه وسلوكه بأن يخفف من طائفيته ليست سذاجة سياسية فحسب، بل هي أيضا اعتراف بالطائفية السياسية، مما يعني أننا "لا طبنا ولا غدا الشر".

 هذا أولاً، أما ثانياً، وأكثر أهمية، فهو ضرورة البدء حالاً بمشروع الإصلاح السياسي باتجاه استكمال بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة تنطلق من المبادئ الدستورية العامة التي تعلي من شأن المواطنة الدستورية المتساوية في الحقوق والواجبات، فضلا عن إشهار العمل السياسي وتنظيمه على أسس مدنية ديمقراطية وبرامج وطنية عامة، إذ إن الاصطفافات والاستقطابات والتكتلات الطائفية والفئوية ستبقى وستزداد قوة وخطورة ما دام الوضع السياسي السيئ الحالي باقياً لم يتغير.