«بعد سقوط حسني مبارك»، هكذا حددت المخرجة هالة خليل زمن الفيلم الذي كتبته وأخرجته تحت اسم «نوارة» لكنها لم تفعل، مثل كثيرين، انشغلوا بالحديث عن إرهاصات الثورة ومبرراتها، بل راحت ترصد انعكاسات «الثورة» على شريحة الفقراء، والمهمشين، الذين كان ينبغي أن يكونوا على رأس المستفيدين من «الثورة»، وإذا بهم يتحولون إلى «هشيم» و{رماد» يدفعون ثمن قيامها، ويحصدون نتائجها!
«نوارة» (منة شلبي) هي ابنة هذه الشريحة المُعدمة، التي لا تجد قطرة الماء، وتعاني إهمالاً وتجاهلاً على الأصعدة كافة، وتسعى إلى التغلب على هذه المعاناة، وإتمام زواجها الشرعي وفتاها «علي» (أمير صلاح)، بالعمل لدى عائلة رجل الأعمال «أسامة» (محمود حميدة) المكونة من زوجته «شاهندة هانم الغزولي» (شيرين رضا) وابنته «خديجة» (رحمة حسن) وابنه المقيم في الخارج «إياد» (أحمد مجدي). لكن الفيلم، الذي يفتقد الخيال، يُغرق المتلقي في طوفان من «الواقعية المفرطة» والمشاهد التي سعت المؤلفة/ المخرجة من خلالها إلى تكثيف الشعور بالغضب والتأسي على أحوال الفقراء والمهمشين. والأهم القول إن «الثورة كانت ضرورة»، لكن الأثر جاء عكسياً، نتيجة غياب الحس الجمالي المفترض، فمشاهد البطلة وهي تحمل «جراكن المياه» التي تؤمن حاجتها وجدتها «توحة» (رجاء حسين)، التي تخشى أن تموت ولا تجد قطرة ماء تغسل جثتها، والجارة التي تطلب حفنة ماء لتغسل وجه طفلتها قبل الذهاب إلى المدرسة، وتحميل الممرضة «المرتشية» مسؤولية الانهيار الحاصل، وتردي الأحوال الصحية في المستشفيات العامة، هي مبالغات أقرب إلى «الميلودراميات»، التي لا تستدعي الشفقة على الفقراء، والمهمشين، بقدر ما تثير الحنق ضد الفيلم، الذي بدا، في لحظة، وكأنه يُلقي بمسؤولية فشل الثورة، أو انحرافها عن مسارها، على «الشعب» نفسه. وهو المعنى الذي يؤكده مشهد المظاهرة التي كانت تقطع الطريق، وتعطل مصالح المواطنين الساعين إلى العمل والرزق، في حين يُقدم الفيلم – في المقابل – صورة محببة لرجل الأعمال «الوطني»، الذي يفهم طبيعة الشعب المصري، ويرفض الهروب من مصر، كما فعل رجال أعمال كُثر، كونه يُراهن على عودة الأوضاع السياسية والاقتصادية إلى ما كانت عليه قبل «الثورة»، وهو ما عبر عنه بثقة قائلاً: «بكرة أفكركم... كل حاجة حترجع زي ما هي بالضبط»!الخيال الغائب، باستثناء اجتهادات محدودة للغاية، قاد الفيلم إلى الوقوع في فخ «التقريرية»، وكأننا حيال فيلم تسجيلي يرصد فترة ما بعد سقوط «مبارك»، فالإشارة واضحة إلى فترة حكم المجلس العسكري، والتحفظ على مبارك ونجليه، وغيرها من الحوادث «المحفوظة»، بينما بالغت المؤلفة/ المخرجة كثيراً في اللعب على وتر «الوهم»، والتغرير بالبسطاء عبر الإيحاء بأن الحياة الوردية في انتظارهم، بعد استرداد الأموال المهربة والمنهوبة، وأفسد التكرار المعنى والرسالة!في سياق ليس ببعيد، لا يمكن تجاهل التميز الواضح للعناصر الفنية، خصوصاً موسيقى السورية ليال وطفة وتصوير زكي عارف وديكور هند حيدر، والأداء الهادئ والسلس للممثلة منة شلبي لدور «نوارة»، وفهمها الشخصية، ووعيها بخلفيتها الاجتماعية، ومحدودية ثقافتها السياسية (لاحظ مشهد نجاحها في قهر خوفها من الكلب وتمكنها من السيطرة عليه بكل ما يحمله من دلالات وإسقاطات)، وجاء أداء محمود حميدة الواثق، المتمكن، المسيطر على شخصية «أسامة»، والدارس لها، والملم بجوانبها، ليمنح الشخصية والفيلم بريقاً ووميضاً، على عكس أداء أمير صلاح الدين الذي شابه التوتر، ربما الخلل في كتابة شخصية «علي»، الذي يتحدر من أصول نوبية، وشهدت شخصيته انقلاباً غير مبرر بين الشر والخير، خصوصاً أن ملامحه توحي دوماً بالبلطجة، وتتناقض مع الغرام الزائد التي تكنه «نوارة» تجاهه، وتنقلب بسببه على مبادئها التي ترفض خلالها إغراءاته بإتمام زواجهما في الفيلا التي تخدم بها، ولا ترى بديلاً عن الدخول في بيت الزوجية. وفجأة تتنازل عن كل هذا، وتغرق معه في بحور العسل!هنا، وعلى عكس سيطرة المخرجة هالة خليل على أداء منة شلبي، ونجاحها في استخراج أفضل ما في جعبتها، بدليل انتزاع جائزة أفضل ممثلة في الدورة الأخيرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي، يتراجع أداء القديرين أحمد راتب ورجاء حسين، فالأول أدى دور «عبد الله»، الذي يعمل لدى رجل الأعمال، برتابة، وشحوب، وبلا حماسة، وكأنه اكتفى بأداء الواجب، بينما جسدت رجاء حسين شخصية الجدة «توحة»، التي تبيع السندويتشات من نافذة بيتها بالطابق الأرضي، وكأنها تراهن على جائزة، كالتي حصلت عليها أمينة رزق في فيلم «أريد حلاً»، فكانت النتيجة مخيبة للآمال. لكن الطامة الكبرى تمثلت في أداء عباس أبو الحسن شخصية «حسن»، الذي غلب عليه الانفعال بشكل مبالغ فيه، والتوتر من دون سبب!عانى فيلم «نوارة» في السيناريو فقراً في الخيال، لم يعوضه اجتهاد المخرجة، التي كان بمقدورها أن تترك مسؤولية صياغة الفكرة الأخاذة (الثورة راح ضحيتها الفقراء) لكاتب سواها لتتفرغ لمسؤوليتها الكبيرة، وحملها الثقيل!
توابل
فجر يوم جديد: «نوارة»!
28-03-2016