المدنية في أقصى حالاتها لا تسكن قاع الهرم الاجتماعي أو قمته، بل هي تسري في كل أجزائه كما تسري الكهرباء، وهي ليست نظاما بقدر ما هي قضية عادات وإتيكيت وكياسة وطقوس غير رسمية تسهل تفاعلنا، ومن ثم تمدنا بطرائق، مطعمة بالقيم الإنسانية، لمعاملة بعضنا بعضا على نحو لائق.

Ad

لم تعد فكرة ضبط المجتمع وفق أفكار إطلاقية أمرا مستساغا أو عمليا، ولئن وطد "داعش" و"بوكو حرام" وقبلهما القاعدة هذه النتيجة فإن خلاصة كهذه وضعت مجتمعاتنا وجها لوجه أمام عجزها المزمن بالانتقال إلى طور المدنية. وهذا الأمر يستحثنا على النظر كثيرا في موروثنا الديني وثقافتنا وعاداتنا وأخلاقنا ولغتنا وأنماط حياتنا، فقد فجعنا من التحولات الدموية الجارية في غير مجتمع عربي ليس فقط بقدرتنا على الجمع بين التخلف والطغيان والهبوط إلى القعر الأدنى من الهمجية، بل على هشاشة حساسيتنا الإنسانية.

كثيرة هي العناوين التي يجري استخدامها في وصف بؤسنا الحضاري، وقد يغطي كل واحد منها جزءا من واقع الحال، كضعف التقاليد الديمقراطية أو النزوح الفكري نحو أزمنة خلت، أو الإيمان بخلاص نهائي لن يأتي أبدا، أو اعتناق أساطير وخرافات في ما خص الاجتماع الإنساني والتقدم، ولكن هذه العناوين جميعا يمكن إدراجها تحت عنوان أكبر وأشمل هو المدنية.

فالمدنية في أقصى حالاتها لا تسكن قاع الهرم الاجتماعي أو قمته، بل هي تسري في كل أجزائه كما تسري الكهرباء، وهي ليست نظاما بقدر ما هي قضية عادات وإتيكيت وكياسة وطقوس غير رسمية تسهل تفاعلنا، ومن ثم تمدنا بطرائق، مطعمة بالقيم الإنسانية، لمعاملة بعضنا بعضا على نحو لائق، وكشكل للحياة، تصنع المدنية للناس فضاء اجتماعيا وسيكولوجيا يعيشون من خلاله حياتهم الخاصة ويقومون باختياراتهم الشخصية، كما أنها تشذب تفاصيل الحياة في الإطار الاجتماعي العام، فالشباب حين يتشاجرون ويتلفظون بالشتائم في الأماكن العامة أو حين يعد شخص أو جماعة ذوقه معيارا للمجتمع فإن ذلك ليس سوى عرض سطحي لغياب المدنية، ولكن المظهر الأكثر عمقا يتمثل بالمواقف الأخلاقية غير المتسامحة، فعدم التسامح هو أسوأ أنواع الفظاظة.

إن ما يتأتى عن غياب المدنية استبدال التخندق الاجتماعي بالشعور الاجتماعي، حيث تأخذ كل جماعة بالالتفاف حول نفسها ليتحول المجتمع والكون بأسره إلى ثنائية "الشبيه" و"الآخر"، ومع مواقف كهذه تستعار يافطات عريضة كالطائفة والدين والعرق واللون، فهي تمدنا بسخاء بتبريرات متنوعة لانشطار المجتمع إلى جماعات فرعية يسعى أفرادها إلى التحصن فيما يرونه خطرا وأنانية مصدرها الآخر.

إن المدنية تعزز المجتمع الذي يتعامل مع نفسه بشكل جيد، والذي يحترم أفراده القيم الداخلية (الذاتية) للأفراد وحقوق الأفراد الآخرين المختلفين عنهم، أما غيابها فيتأتى عنه تفسخ الماكينة الاجتماعية وعطبها، وبالتالي كفها عن القيام بوظيفتها ليتهاوى على أثرها التسامح والاحترام المتبادل اللذان يصنعان في مجتمع جماعي معقد مجالا للأفراد يعيشون فيه حياتهم الخاصة بسلام.