الربيع المقصود في مقالي هذا ربيع الطبيعة، لا الربيع العربي المشؤوم، ما أقصده هو ربيع الخلق، وليس الموت، هو ربيع انبثاق الحياة أي صناعتها، وهو صبغته التي يتميز بها، ودليله وعنوانه.

Ad

فصول السنة كلها مميزة وجميلة، ولها طابعها الخاص، فالشتاء برغم برودته، فإنه مليء بالحميمية، والدفء العاطفي والحسي، أما الخريف بشحوبه، وسكونه، وشجونه، ورومانسيته الطاغية، فهو بجد حائك الأحلام، ومحرك الخيال الفني والكتابة، والصيف بانفلاته، وتحرره، وحرارة انفعالاته، التي يلزمها العطلات لتهدئها وتبرد طغيانها، كل الفصول تبعث البهجة والإحساس بالتجدد وتقشير جلد الرتابة الحياتية، لكن الربيع من دونها جميعاً هو وحده معني بصناعة وخلق الحياة، وهو الأمر الملاحظ في عالمنا العربي، وحتى الخليجي الصحراوي، الذي تنقلب صحراؤه على نفسها، بحيث لا تصدق ذاتها بكل هذا الاخضرار، الذي قلبها بعصاه السحرية، ومسها "بخبل" فوران هرمونات الطبيعة، وفي الدول الأوروبية أو الدول، التي تتميز بطقس شتائي ثلجي بارد مجمد لحركة الطبيعة، ونموها، ونائم في سباته حتى يأتيه الربيع، ويهل عليه بصاعقة قدومه، لحظتها تنفجر أنفاس الحياة، وتدب في شرايين تكوينٍ يدور في نسغ الحياة، فيتسارع نبضها، وتزداد دقات ساعات نضجها بشكل سافر يعلن عنها، فالشجر الجاف الملتحف بعريه الرمادي تبدأ براعم أوراقه تطل بنتوءاتها الصغيرة من الأغصان الجرداء المصبرة في شتائها الطويل، لتحتفل بشمس الربيع الواهنة، التي تمدها بالحياة يوماً بعد يوم، حتى يتدفق نبض الخلق فيها، فلا تبقى شجرة أو عشبة أو نبتة، إلا أطلت برأسها فوق الأرض، لتبدأ تجديد خلاياها في تحولاتها اليومية، وتتأهب للاحتفال بعيد ميلادها، حتى تتشابك الغابات، وتعرش أغصانها، ويمتد بساطها الأخضر موشحاً ومغزولاً بألوان زهور العمر المبهر القصير.

ليس عطاء الربيع مقصوراً على النباتات وحدها وما يهبها من صناعته لحياتها، بل يشمل عطاؤه كل ما يدب على الأرض، وما يختفي في أديم شرايينها، بكل ما فيها وما عليها من إنسان، ومن نبات، وحيوان، وحشرات، الجميع يبدأون صناعة وخلق انبثاقهم وتجددهم، حتى يصبح الربيع يغلي من كثرة صنّاع الحياة فيه.

مراقبة هذه التحولات وهرولتها لصناعة حياة كل ما يحيط بنا، وما يكون وجودنا فعل يشكل منتهى المتعة الجمالية، متابعتها والتأمل فيها يملآن القلب بالمسرة والعين بالبهجة، فكلها تسعى وتهرول نحو استمرارها، وفعل وجودها بشكل غامض، غير واع بما يحركه ويهز أشواقه لهذه الاستمرارية، فمن الإنسان تجده في الربيع يزداد عشقاً، وتكثر تهويماته وأحلام يقظته، ووقوعه في الحب واشتعال الغزل والآهات، وهرولته للزواج والارتباط  بمن يحب، كذلك الأمر يحدث مع الحيوان بشكل خفيف الدم ظريف ومراقبته في هرولته العبثية للتزاوج تكشف سر استمرارية هذا الكون، فمن حفر الجحور إلى بناء الأعشاش وتنظيفها من حياتها السابقة، وهذه الجدية والفرح الذي يظهره اهتزاز الذيول وارتفاع أصوات التغريد والصفير مع الانهماك في العمل، لماذا هذا التعب كله؟

لأن الربيع يحمل سر استمرارية خلق الحياة لهذا الكون، حتى إن كانت تدور بلا وعي من صناعها، لكنها في النهاية تكمل دورانها.

التأمل والمراقبة يكشفان نعمة الخلق وبهجة السعي إليها، حتى إن كانت قصيرة، لكنها تقدم هذا السعي المتدفق الصاخب والضاج بنبض لحظات العمر فيها، وأنا أرقب حركة عبور ذكور الضفادع في دروب الحقول لملاحقة إناثها المتقافزة ما بين الحشائش، وعلى الرغم من تعرضها للدهس، لكنها تواصل عبورها ليقتلها شبقها أحياناً كثيرة قبل الوصول، ومع هذا من يصل يتمّ مهمته في استمرار السلالة.

الربيع بالفعل صانع الحياة بجدارة ولعل هذه الأبيات الشعرية تمثل صناعته لها:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا

من الحسن حتى كاد أن يتكلما

وقد نبه النوروز في غلس الدجى

أوائل ورد كن بالأمس نوما

يفتقها برد الندى فكأنه

يبث حديثا كان أمس مكتما

ومن شجر رد الربيع لباسه

عليه كما نشرت وشيا منمنما

أحل فأبدى للعيون بشاشة

وكان قذى للعين إذ كان محرما

ورق نسيم الريح حتى حسبته

يجيء بأنفاس الأحبة نعما

فما يحبس الراح التي أنت خلها

وما يمنع الأوتار أن تترنما.