لقد تحول الفضاء الإلكتروني إلى ميدان تضاغط وصراع، وهو ميدان لا تتورع عن النزال فيه حكومة أو معارضة، أو منظمة مدنية أو جماعة إرهابية، أو حتى رجال أعمال وأصحاب مصالح، لذلك فإن الدور الإخباري لوسائل التواصل الاجتماعي سيظل محل شكوك عميقة.

Ad

تقف مواقع التواصل الاجتماعي راهناً في مفترق طرق؛ فإما أن تغرق في ممارسات منفلتة تطيح بقدرتها على القيام بدور إخباري مقبول، وإما أن تطور آليات تجعل منها مصدراً معتبراً للأخبار.

تعطي مواقع التواصل الاجتماعي لمستخدميها صلاحيات غير قابلة للمنافسة من أي وسيلة إعلام جماهيرية؛ إذ تمكنهم من انتقاء الأخبار، وصياغتها، وتأطيرها، وبثها خلال ثوان معدودات، طالما كانوا يمتلكون هواتف جوالة ذكية، أو أياً من الوسائط التقنية الأخرى، وصلة بالـ"الإنترنت". يمكن ملاحظة أن نسبة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار تزداد باطراد في ظل سخونة الأوضاع السياسية من جهة، وكلما تعرض الإعلام النظامي لتضييق أو استهداف من السلطات من جهة أخرى. وقد شهدت السنوات القليلة الفائتة اتجاهاً من السلطات في أكثر من دولة عربية إلى استهداف "مدونين" و"مغردين" باتهامات وأحكام بالسجن، بأكثر مما يحدث مع الصحافيين والإعلاميين الذين يمارسون عملهم في وسائل الإعلام النظامية.

تزيد نسبة مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في الدول التي تشهد انغلاقاً في إعلامها النظامي، وترتفع نسبة المحتوى السياسي في "تويتر" بشكل مطرد، ويزيد ميل السياسيين والقادة من كل الأطراف إلى استخدامه في إنتاج الأخبار وبثها وتداولها ومتابعة تطورات الرأي العام ومحاولة تقصي ما يطرأ على الوعي الجمعي من تغيرات.

في مقابل الميزات الكبيرة التي تتيحها مواقع التواصل الاجتماعي لمستخدميها، خصوصاً على صعد السرعة والإيجاز والبلورة وإمكانات البحث وقدرات التعبئة والتوجيه، ثمة الكثير من السلبيات والاعتوارات؛ فتلك الوسائط لا تُخضع المحتوى الذي تبثه لأي شكل من أشكال التقييم أو المراجعة، ولا تُلزم من يبث هذا المحتوى بأي قدر من الالتزام، سوى ما يقرره طوعاً لذاته. يسهل جداً نقل الأخبار عبر مواقع التواصل الاجتماعي من دون أي قدر من التوثيق، وفي أحوال عديدة لا يتم نسب تلك الأخبار إلى أصحاب الحسابات التي تم بثها من خلالها، وكثيراً ما يتم نقلها باعتبارها "حقائق لا تقبل الدحض"، كما يسهل طبعاً أن يتنصل صاحب الحساب من الرأي أو المعلومة أو التقييم الذي بثه قبل قليل بداعي أن "الحساب تمت سرقته"، أو أنه "لا يمتلك حساباً في الأساس".

تمثل مواقع التواصل الاجتماعي رصيداً إخبارياً معتبراً، خصوصاً في ظل أجواء التعتيم والاستبداد التي تغل يد الإعلام النظامي، لكنها أيضاً تعد ميداناً خصباً لاختلاق الوقائع وتشويه الحقائق وبلورة المشاعر الغاضبة وشن الحملات الدعائية وأحياناً بث الكراهية.

يجب أن يلتزم الصحافيون الذين يعتمدون على تلك الوسائل خلال تغطياتهم في أوقات الغموض والنزاع بالقواعد المهنية والأخلاقية المناسبة في هذا الصدد؛ وفي مقدمتها ضرورة تحري الدقة، والنسب إلى مصادر واضحة كلما أمكن، ووضع الأحداث في سياقها، إضافة إلى التثبت من الصور والفيديوهات وأوقات تسجيلها وتصويرها، وتقصي ما إذا كانت قد تعرضت لأي عمليات لتغيير محتواها بغرض إحداث تأثير معين غير موضوعي. وفي كل الأحوال فإن الاعتماد أحياناً على مواقع التواصل الاجتماعي في معرفة ما يجري، خصوصاً في أوقات الغموض أو الحروب والنزاعات، قد يكون ضرورياً في ظل غياب الإفادات التي تأتي عبر صحافيين محترفين، لكن هذا الاعتماد يجب أن يكون حلاً أخيراً من جهة، كما يجب أن يتم بحذر شديد، وبعد تحر وتدقيق من جهة أخرى.

لقد منحتنا وسائل التواصل الاجتماعي فرصاً عديدة حين قصرت المسافات، وسهلت الاتصالات، ونقلت الأفكار والصور، وعززت مفاهيم الحداثة، لكن في مقابل هذه الميزات والفرص الكبيرة ظهرت المخاطر الفادحة؛ ومنها خطر الخضوع لـ"الميليشيات الإلكترونية"، التي تستخدمها بعض الأطراف كأداة للتعبئة والحشد والاغتيال المعنوي أحياناً. لا يمكن فصل المحتوى الإخباري المقدم عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن المحتوى الدعائي بسهولة؛ إذ تنشط مجموعات، يسميها الصينيون "عصابات الخمسين سنتاً"، ونطلق عليها في العالم العربي لقب "الميليشيات الإلكترونية"، لتصعب عملية فرز المحتوى الإخباري على مواقع التواصل الاجتماعي في إطار محاولة التثبت من دقته.

تقوم تلك المجموعات بعمل "ميليشياوي" بامتياز، إذ تخضع لتخطيط مركزي، يستهدف إحداث أثر معين، لكنها تنشط بشكل غير متماثل، وتتخذ سواتر، وتطور حسابات بأسماء وهمية، وبالتالي فإنها تنجح في إصابة أهدافها من دون كشف هوياتها في كثير من الأحيان.

تقوم "عصابات الخمسين سنتاً" بشن حملات السب والقذف والكراهية على أطراف معينة، امتثالاً لأوامر أسيادها، كما تقوم أحياناً بحملات دعاية وترويج ومدح للحلفاء والأنصار.

ويمكن لتلك "الميليشيات" أيضاً أن تختلق أخباراً من العدم، وتذيعها على حساباتها باعتبارها حقائق، قبل أن تُجيّش في اتجاه معين، استناداً إلى تلك الإفادات المصطنعة.

يقتطع أعضاء تلك "الميليشيات" صوراً وكلمات ولقطات "فيديو" من سياقها، ويتم وضعها تحت عناوين مضللة، وفي سياق عرض معين، لكي توقع بطرف، أو تدين طرفاً، أو تختلق فتنة بين أتباع دينين أو مذهبين، أو تمجد زعيماً، أو تحقر رئيساً. وللأسف الشديد فإن "عصابات الخمسين سنتاً"، أو "الميليشيات الإلكترونية"، أو "اللجان الإلكترونية"، لم تعد مسألة قاصرة على الحركات والتنظيمات والأحزاب السياسية وقوى المعارضة، ولكن الحكومات أيضاً تستخدمها. لقد تحول الفضاء الإلكتروني، خصوصاً في صفحات "السوشيال ميديا"، إلى ميدان تضاغط وصراع، وهو ميدان لا تتورع عن النزال فيه حكومة أو معارضة، أو منظمة مدنية أو جماعة إرهابية، أو حتى رجال أعمال وأصحاب مصالح.، وبسبب تفشي أثر تلك اللجان، فإن الدور الإخباري لوسائل التواصل الاجتماعي يظل محل شكوك عميقة.

وستشهد السنوات القليلة المقبلة اختباراً قاسياُ لتلك الوسائل ومستخدميها، فإما أن تستطيع أن تطور وسائل للالتزام الطوعي الذاتي، بما يحد من أخطائها، ويعزز أداءها الإخباري والاجتماعي، وإما أن تستسلم للممارسات الحادة والمنحرفة، فتصبح مصدراً للشائعات، وأدوات للتخريب وتقويض أركان المجتمعات وهز سلمها الأهلي، والعبث بمقدرات الأفراد والدول.

* كاتب مصري