لن تكون «الحوكمة» هي الطريق الدائم والمستمر، لكنها ستكون «الجسر»، الذي سيقود دولة مثل مصر إلى بناء مؤسسات ديمقراطية، واعتماد آلية تنافسية لنقل السلطة بناء على تصويت الجمهور فى الصناديق، في وقت ليس بعيداً.
في الشهر الماضي، التقى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي 24 مثقفاً مصرياً في لقاء مفتوح امتد لثلاث ساعات، سعى خلاله الرئيس، وفق ما صرح به بنفسه، إلى استطلاع آرائهم، من أجل إيجاد حلول للمشكلات التي تعانيها البلاد. لقد أثار هذا اللقاء اهتمام كثيرين في المجال العام المصري، وظلت أخباره حديثاً للمنتديات لأيام عديدة، كما خرجت تفسيرات متضاربة في محاولة لشرح الأسباب التي دعت إلى عقده.أحد هذه التفسيرات يؤكد ما قالته الرئاسة نفسها من أن اللقاء محاولة لاستمزاج آراء النخب والمفكرين في القضايا الملحة التي يواجهها المصريون راهناً. لكن ثمة تفسيراً آخر يذهب إلى أن اللقاء لم يكن سوى أحد أنشطة "العلاقات العامة"، التي تستهدف إعادة تعزيز لحمة تحالف "30 يونيو"، الذي حمل الرئيس إلى سدة الحكم، وتقليل الانتقادات التي يواجهها أداء الحكومة في الآونة الأخيرة.يمكن أن يكون أحد التفسيرين صحيحاً، كما يمكن أن يكون كلاهما صحيحاً أيضاً، وفي الحالة الأولى ستكون الرئاسة قد رأت ضرورة التعرف إلى آراء جديدة من خارج مربع السلطة، لتعزيز أدائها الذي يبدو مرتبكاً، وفي الحالة الثانية ستكون الرئاسة قد أضافت إلى ذلك الرغبة في "تحسين صورتها"، والحد من الانتقادات المتتالية التي توجه إلى أداء منظومة الحكم.لا تبدو مصر في أوضاع جيدة بطبيعة الحال، فالعمليات الإرهابية ما زالت تتوالى في سيناء، وتوقع قتلى وجرحى بين الجنود والمدنيين يوماً بعد يوم. ويواجه ملف الحريات وحقوق الإنسان تحديات خطيرة وصعبة في ظل انتهاكات كبيرة أصبحت مثار تنديد وإنكار في الداخل والخارج، بشكل بات يمثل تهديداً واضحاً للصورة الذهنية للدولة والنظام وقدرة الحكومة على الدفاع عن أدائها في المحافل الدولية.وفي غضون ذلك، يتراجع الأداء الاقتصادي باطراد، ويتدنى الجنيه المصري مقابل الدولار الأميركي، وتنخفض نقاط مصر في مؤشرات التنافسية الدولية، وترتفع الأسعار، وتتراجع قدرة الموارد على الوفاء بالاحتياجات المتصاعدة.لقد اتفق المثقفون الـ 24 على عقد لجان نوعية لوضع رؤى وبرامج يمكن أن تساعد منظومة الحكم في مواجهة تلك التحديات، وسواء تم تفعيل هذا الاقتراح أو ذهب إلى طي النسيان كأمثاله سابقاً، فثمة ما يمكن أن يساعد في تعزيز استراتيجية السلطة في مصر.تقف السلطة الوطنية في مصر على رأس مفترق طرق يأخذ البلاد إلى ثلاثة اتجاهات متعارضة، لكنها تؤكد أن الطريق الوحيد الآمن للمصريين هو طريق "الاصطفاف والصبر".تجد السلطة ذرائع وجيهة لتسويق فكرة "الاصطفاف والصبر"، وهي ذرائع تبدأ بما يحدث في سورية وليبيا واليمن والعراق، وتتوسل بحقيقة أن "مبارك ترك مصر خرابة، ومؤسساتها منهارة"، وتستند إلى واقع "التحدي الإرهابي"، وتتعهد بالعمل المُجد المخلص، وتطلب المؤازرة، أو التحمل، والسكوت، والكف عن السؤال.وفي مقابل ما تطرحه السلطة وتصر عليه، بحيث يبدو أنها لا تعرف غيره ولا تريد غيره، سنجد طريقاً آخر تطرحه القوى الوطنية الحية، التي صنعت "ثورة يناير"، وساندت "ثورة يونيو"، وصاغت الدستور، ودعت إلى إقراره، وانتخبت السيسي رئيساً، وتوقعت "تغيراً جوهرياً حقيقياً"، يأخذ مصر إلى مكانتها المستحقة.إن تلك القوى الوطنية تنطلق في مشروعها، وطريقها المقترح، من نداء "ثورة يناير"، ومطالبه الواضحة: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"، وهي، في معظمها، تعتقد أن الطريق الوحيد الذي يمكن أن يلبي هذا النداء هو طريق الانتقال الديمقراطي التدريجي السلمي المدروس.تعتقد تلك القوى أن تجاهل المطالب الديمقراطية، بما تشمله من تداول سلطة، وحقوق إنسان، هو عمل ضد التاريخ، وأن تبني المسار الديمقراطي ضمانة أساسية لتحقيق التقدم والخروج من الوضع المأزوم الراهن.سيمكن فهم أن السلطة ما زالت تصر على خيار "الاصطفاف والصبر"، ولا تؤمن أو تتفهم فكرة "الانتقال الديمقراطي"، وأن سوء فهم عميقاً بدأ يظهر بين الجانبين وأنصارهما، وربما أخذهما بالفعل إلى صدام، وثمة طريق ثالث يظهر بوضوح، وهو طريق الفوضى والانهيار.لا يريد أي من الجانبين سلوك هذا الطريق بالطبع، لكن ثمة قوى داخلية وخارجية تعمل من أجل دفع البلاد إليه، وبسبب هذا التربص والكيد، وبسبب أن هذا الطريق يمثل مطمحاً رئيساً لقوى الإرهاب ومن يساندها، فإن السلطة تستخدمه أحياناً "فزاعة"، ووسيلة لتكريس فكرتها عن ضرورة "الاصطفاف والصبر".ألا يوجد طريق رابع يمكن أن يحل هذا الإشكال، ويخرج مصر من هذه المتاهة والدائرة المفرغة؟لحسن الحظ، فإن ثمة طريقا رابعا لم يكن مناط رهان، وهو طريق "الحوكمة والإنجاز"، والحوكمة هي "خليط من السلام والنظام والحكم الرشيد، ورغم أنها لا تقنن منح السلطة أو تنازعها فى أحيان عديدة، فإنها تلزم الحكم بقرارات ناجعة تصادف التوقعات، وتحتم التحقق من الأداء".لا تعني "الحوكمة" إذاً إقامة نظام استبدادي، وانتهاك حقوق الإنسان، وممارسة الطغيان، وتكريس الدكتاتورية، بل على العكس تماماً، فهي تتطلب استقرار النظام، وهو أمر لا يتم من دون القبول والرضا، وهذان العنصران لا يتحققان فى ظل الاستبداد والطغيان، بل يتحققان من خلال الإنجاز، وإخضاع الأداء للتقييم، ومحاربة الفساد، وحماية المصالح العليا، وصيانة الأمن القومي، وتحقيق التوقعات.لن تكون "الحوكمة" هي الطريق الدائم والمستمر، لكنها ستكون "الجسر"، الذي سيقود دولة مثل مصر إلى بناء مؤسسات ديمقراطية، واعتماد آلية تنافسية لنقل السلطة بناء على تصويت الجمهور فى الصناديق، في وقت ليس بعيداً. سنجد نماذج لـ "الحوكمة والإدارة الرشيدة" في بلدان مثل الصين، وسنغافورة، والإمارات، وغيرها، لكن اختيار طريق "الحوكمة والإنجاز" يحتاج إدارة رشيدة، قابلة للمحاسبة، وتمتلك رؤية معلنة واضحة وقابلة للتحقق، وتساعدها كوادر قادرة ومُختارة بعناية، وتستهدف درجة من النجاعة في الأداء، وتمتلك آليات تقويم وردع لمن يعمل بالخدمة العامة.لا يوجد ما يضمن أن يستمر تجاوب المصريين مع مطلب السلطة بـ"الاصطفاف والصبر"، في ظل الظروف الصعبة والتراجع الاقتصادي، كما قد يصعب جداً تحقيق الانتقال الديمقراطي في ظل الأوضاع والتحديات الراهنة، لكن "الحوكمة والإنجاز" يمكن أن يكون طريقاً مأموناً وناجعاً للطرفين.* كاتب مصري
مقالات - زوايا ورؤى
مصر... من «الاصطفاف والصبر» إلى «الحوكمة والإنجاز»
03-04-2016