هل تعتبر نفسك إنساناً مهماً؟

نشر في 22-03-2016
آخر تحديث 22-03-2016 | 00:01
 د. نجمة إدريس من خلال البحث الاستقصائي تمكن المؤلف ديفيد بروكس في كتابه: The Road to Character من ملاحظة أن ثقافة التواضع بدأت تتقهقر أمام ثقافة تضخيم الذات (the big me)، وأن الذهنية التي تدفع الناس إلى التفكير في أنفسهم بتواضع قد تبدلت إلى تلك التي تحفزهم إلى النظر لأنفسهم وكأنهم مركز الكون.

في استبيان أجري عام 1950 لطلبة المرحلة الثانوية حول السؤال: "هل تعتبر نفسك إنساناً مهماً؟"، كانت الإجابة بنعم تشكل 12 في المئة فقط من العينة المستهدفة. وحين أعيد إجراء هذا الاستبيان عام 2005 كانت الإجابة بنعم تشكل 80 في المئة. هذا ما يسميه علماء النفس اختبار النرجسية، حيث يحلل هذا الاختبار مدى انطباق الإفادات التي تتطوع بها العينة المستهدفة على أنفسهم. من ضمن تلك الإفادات:" أنا أحب أن أكون مركز الانتباه... أنا أستعرض قدراتي إذا سنحت الفرصة لأنني شخص نادر... لابد أن يقوم أحدهم بكتابة سيرة حياتي".

وعليه فقد أثبتت الدراسة أن الميول النرجسية ارتفعت نسبتها إلى 30 في المئة خلال العقدين الأخيرين عند البالغين، أما عند اليافعين فقد بلغت 93 في المئة. أما النسبة العظمى من الإفادات التي أجيب عليها بنعم فهي: "أنا شخص متميّز/ أو نادر" و"أنا أحب النظر إلى شكلي/ جسمي".

إلى جانب هذه النزعة المبالغ فيها في مسألة تقدير الذات، تظهر الرغبة المحمومة في الشهرة أيضاً. ومسألة الشهرة لم تكن قط من الأولويات في العقود القليلة الماضية. فقد أجري استبيان عام 1976 لترتيب أولويات الحياة، فجاءت الشهرة لتحتل الرقم 15 في الترتيب بين 16 أولوية. وحين أجري الاستبيان ذاته عام 2007 وُجد أن ما نسبته 51 في المئة من فئة الشباب أفادوا بأن مسألة الشهرة هي من ضمن أهم أهدافهم في الحياة.

وحين سئلت فئة من اليافعات حول أهم شخصية تتمنى تناول العشاء معها، جاءت شخصية الممثلة جينيفر لوبيز كرغبة أولى، ثم السيد المسيح كرغبة ثانية وباريس هيلتون كثالثة. ولما سئلن عن الوظيفة التي يطمحن إليها كانت الإجابة "مديرة أعمال الفنان غاستن بيبر (تشكل ضعف الإجابة): مديرة جامعة هارفرد"!

وأينما وليتَ وجهك فستجد الثقافة العامة الآن تحمل ذات الرسالة والتوجّه: "أنت إنسان مميز. ثق بقدراتك، آمن بنفسك". ثم تأتي السينما لتضخم هذا التوجه لدى الأطفال بما تقترحه من بطولات وهمية، وكذلك يفعل الخطاب العام بما يقترحه من كليشيهات: اتبع شغفك، لا ترض بالحدود، ارسم خريطة قدَرك، أنت مسؤول عن تحقيق عظائم الأمور لأنك عظيم. هذه هي أناجيل بناء الثقة بالنفس الآن. وذات الرسائل تتكرر في الكثير من المؤلفات المعاصرة وبرامج التوك شو والمحاضرات الجماهيرية وكتب التنمية الذاتية. بل حتى الخطاب الديني بدأ يتخذ لنفسه مسارب أخرى. فقد مضى زمن حين كان الوعظ يصب في خانة التضحية الذاتية وقيم الإيثار، وبيان أن معوقات السعادة الروحية ليست سوى الرغبة في جعل الناس يفكرون بك. ولكن هذه اللهجة سرعان ما تبدلت أخيراً وأصبحت الذاتية ومركزيتها هي الخطاب الرائج، مثل: "الله لم يخلقك لتكون إنساناً عادياً، أنت خُلقتَ لتترك بصمة وعلامة على الجيل... أنت المختار والمقدّر له إحراز الانتصارات... آمن بذلك واستعدّ".

 في محاولة لتحليل أسباب تلك النقلة من نزعة التواضع في الماضي إلى الميل في هذا العصر إلى المبالغة في تقدير الذات، يرى المؤلف أنها تعود إلى نوعية الإشكالات في كل عصر على حدة. ففي العصر الفيكتوري كانت النزعة الدينية وسطوة الكنيسة بدأت في التفكك، واحتاج المجتمع في ظل هذا الانحسار إلى التعويض بثقافة أخلاقية وروحية رصينة. أما منذ الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين فقد بدأ المجتمع يواجه جملة من التحديات وهو بصدد فرز القيم والأخلاقيات، وما يجب أن يبقى أو ينتهي أو يُعدّل بما يتناسب والمتغيرات الآنية. كان التوجه حينها قد بدأ نحو الإعلاء من شأن الذات والمبالغة في تقديرها، وذلك لتصحيح مظاهر الضيم التي لحقت ببعض فئات المجتمع كالنساء والأقليات العرقية والطبقات الفقيرة ممن تم إشعارهم بالهوان وقلة الشأن والأثر. ومن هنا جاء توجه الثقافة المعاصرة نحو تشجيع هذه الفئات المحبطة للإيمان بأنفسهم ورفع سقف طموحاتهم.

أتصور أنه بقليل من النظر في ظروف متغيرات المجتمع الغربي ومجتمعاتنا، يمكن أن نفهم بسهولة سر التوجه عندنا الآن إلى الإعلاء المبالغ فيه في تقدير الذات خاصة عند الجيل الجديد. الظاهرة تبدو كردة فعل لدهور من القمع الديني والسياسي والاجتماعي، ولعلها انطلاقة – وإن شابها القلق والارتباك – نحو مرحلة تصحيحية واعدة.

back to top