أثار إعلان مرجعية النجف، في خطبة الجمعة الفائتة، أنها ستتوقف عن الحديث السياسي الأسبوعي، موجة من القلق لدى الطبقة السياسية في العراق التي طالما استثمرت الغطاء الديني في دعم النظام السياسي المهدد بألف سبب.

Ad

أكثر من ذلك، فإن نوعا من القلق سرى بين الجمهور الشيعي، فهناك من تساءل: هل بدأت المرجعية الدينية تشعر باليأس من إنقاذ البلاد فأرادت التبرؤ من الحكومة قبل حصول انهيار مالي قد تعقبه فوضى أمنية؟

لكن العارفين بتقاليد العمل في أعرق مدينة دينية لدى الشيعة يدركون أن السلطة الروحية هذه تعمل بحرص شديد على ضمان استقلاليتها إزاء السلطات السياسية، وقد بدأ المرجع الأعلى السيد علي السيستاني يشعر بالانزعاج من اتهامات متزايدة وجهت إليه أخيرا حتى في الصحافة الغربية، تفيد بأنه بدأ يتدخل في السياسة على طريقة المرشد الإيراني علي خامنئي، رغم أن النجف حاولت عبر تدخلها أن تقيد أخطاء رئيس الحكومة السابق نوري المالكي، وتقيد سياسات جنرال الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في العراق.

ويختصر النجفيون مبدأ استقلالية السلطة الروحية بحكاية بسيطة: لقد كانت الحوزة العلمية حتى القرن 18 في أصفهان عاصمة مملكة إيران الصفوية، مرتبطة بالملك ارتباطا وثيقا، وحين سقط الصفويون في ذلك القرن لحق ضرر كبير بسلطة رجال الدين الروحية والأخلاقية، وكان ذلك دافعاً جعل الفقهاء المؤمنين باستقلالية الحوزة وحمايتها من الحكومات وتدخلاتها يهاجرون الى كربلاء والنجف في العراق، ابتعادا عن الدولة الشيعية في إيران، وللاستفادة من تعددية قومية وثقافية واضحة في عراق العصر العثماني.

وحتى في القرن العشرين، فإن الخميني الذي أسس دولة دينية في إيران فشل في الهيمنة على الحوزة العلمية التي نظرت إليه كمنشق عنها متحول الى زعيم سياسي متشدد، ما دفع الخميني الى زج كثير من رجال الدين البارزين في السجن أو وضعهم في الإقامة الجبرية، وبقيت العلاقة قلقة جدا بين طهران وقم، التي لم تعترف لاحقا بأهلية المرشد الحالي علي خامنئي للمناصب الفقهية العليا، ومع النجف التي عارضت نفوذ خامنئي في العراق واستغلاله الشيعة لحروب بلا نهاية في المنطقة.

ولذلك كان السيستاني حريصاً على القول إنه مع استقلالية السلطة الروحية، وعدم تحولها الى طرف سياسي يتحمل الأخطاء المتواصلة في السياسة، وكي لا تسقط الحوزة حين تسقط الحكومة، رغم أنه كان يتدخل حين يشعر أن الفوضى تقترب من معدلات مقلقة. ولذلك فإنه لم يعلن أنه سيتوقف نهائيا عن الادلاء بحديثه السياسي بل قال إن ذلك سيكون عند الضرورة فقط.

والسؤال اليوم هو: من سيربح من صمت السيستاني؟

لقد لعبت النجف دورا في منع الميليشيات الموالية لطهران من التحكم في رئيس الحكومة حيدر العبادي، وأي تراجع قد تبديه سيشجع هذه القوى على التلاعب أكثر فأكثر بالواقع الأمني والسياسي، كما أن خط الاعتدال الشيعي يتماسك نسبيا بفضل الغطاء الذي تمنحه النجف للتيار المؤمن بالتسويات والحوار، ولذلك فإن الإشارة التي أطلقها السيستاني تحمل رسائل الى كل الأطراف، وستظل تثير تكهنات كثيرة، وتدفع لمبادرات عديدة، لعل أولها إعلان مقتدى الصدر ضرورة بلورة تحرك جديد للإصلاح السياسي، تلاه إعلان طويل للعبادي نفسه ليل الاثنين - الثلاثاء، يشرح مستوى الأزمة المالية، ويطلب من البرلمان دعم تعديل وزاري شامل، وهو ما سيدخل بغداد فصلا جديدا من السجال ليس حول العبادي فقط بل حول فلسفة نظام المحاصصة والتوافق المشوه داخل صفقات الطوائف.