الضمير الحاضر الغائب
لا يحتاج الأمر إلى كثير عناء ليتجاوز المرء ضميره، أو أن يعمل على تحييده أو إخراسه عن طريق الجدل المنتهي بالتملك، بحيث يصبح الضمير تحت سيطرة رغبة المرء ورهن أهوائه، يقصيه متى شاء ويدنيه متى أراد.لست أتحدث عن أولئك الذين لا يملكون ضمائر أصلاً، أو أولئك الذين ماتت ضمائرهم منذ زمن طويل، ودفنوها وتحلل رفاتها تحت الثرى، فأولئك قد حسموا موقفهم مع ضمائرهم مبكراً، ولم يعد الضمير لديهم حدّا فاصلاً في مبادئهم أو معياراً لها،
بل أعني أولئك الذين أبقوا ضمائرهم تتأرجح عمداً، وعن سوء قصد بين الموت والحياة، فلا هم أحيوها لتبقى يقظة، وشاهداً حيّاً على أعمالهم، وفيصلاً كحدّ السيف بين الصالح منها والسيئ قاصدين طريق الطهر، ولا هم أماتوها ليمشوا في الأرض خفافاً متحللين من ذنب كل وزر، ومتحصنين من وجع كل خطيئة. إن العلاقة مع الضمير بداية هي عقد اختياري، لا أحد من الناس يلزمك به أو يفرضه عليك أو يجبرك على أن تأخذ به، إن أردت هذه العلاقة رضيت بهذا العقد، وإذا لم ترغب بها فأنت حرّ بأن ترمي بهذا العقد جانباً، أو أن تمزقه إرباً إرباً وتضعه في قبضة الريح غير آسف عليه، وبدون أن تحمّل ذاتك ذرة ندم، إن العلاقة مع الضمير هي خيار المرء الناتج عن جملة من المبادئ والمعايير الأخلاقية والتربوية، ولا يمكن أن تقع هذه العلاقة تحت طائلة أي سلطة، سوى سلطة ذلك العقد الاختياري بين المرء وضميره.لذا فإنه من غير المفهوم لي أن يقبل المرء عقداً اختيارياً ليس مجبراً على أن يرتضيه، مع علمه السابق أنه لن يلتزم به، أو أنه سيظل يبحث دائماً عن ثغرة فيه لاختراقه، أو أن يحاول في كل مناسبة أن يجد المبررات والذرائع لتجاوزه وتحييده جانباً طبقاً لما يوافق هوى نفسه ورغبتها.فإذا ما تعارض هذا العقد مع ما تحرضه نفسه الشريرة عليه، وتزيّنه له، فإنه لن يجد في هذا العقد حرفاً يمنعه عن اتباع هوى نفسه واجتناب رضاها، ولن يجد فيه ما يردعه عن ارتكاب خطيئته المشتهاة.من غير المفهوم لي صدقاً ألا يلتزم المرء بما لم يلزمه إيّاه أحد سواه، أو أن يتحايل على خياراته حتى لا تقع في طريقه. هؤلاء الذين يتعاملون مع الضمير كخيار ثانٍ، أسوأ كثيراً من أولئك معدومي الضمير، على الأقل لأن الأخيرين ملتزمون بما اختاروه نهجاً لحياتهم، ورأيهم في مسألة الضمير واضح لا يحاولون أن يجملوه بلون الخديعة، أما هؤلاء الذين لديهم مبررات مسوّرة بالمنطق، وتخريجات مطعمة بالدين، ومسوغات مغلفة بالضرورة فليسوا سوى أفّاقين يحاولون بكل نفس انتهازي أن يستغلوا جميع الأحوال لمصلحة مطامعهم الشيطانية، وتكييفها لإشباع الحجم الأكبر من ملذاتهم، مستخدمين الضمير وسيلة من الوسائل طالما سيصل بهم في النهاية إلى غاياتهم الأنانية.