مكر التاريخ

نشر في 22-02-2016
آخر تحديث 22-02-2016 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري يقصد بمكر التاريخ الطرق والوسائل الذكية الكامنة وراء التحولات والتغيرات الحاصلة عبر الزمان والمكان، والتي يسلكها التاريخ لتحقيق أهدافه وغاياته المرسومة، وهو جوهر فلسفة "هيغل" فيلسوف الألمان الأعظم، في حركة التاريخ، هو ذلك المكر الخفي الذي يسري في عمق المجتمعات والدول، رغماً عنها وفي غفلة منها، لتحدث تغييرات نوعيه تبدل وجه الحياة والتاريخ والمجتمعات والبشر، وهذا يعني أن الأحداث التي نشاهدها، خيراً أو شراً، حزناً أو فرحاً، ليست كما تبدو ظاهراً، فهناك في الأعماق، تغييرات خفية حاصلة على خلاف ظواهرها، لذا علينا، وكما يقول هاشم صالح في تفسيره لفلسفة هيغل في التاريخ، ألا ننخدع بالظواهر عن التغيرات في الأعماق، كمن ينظر إلى أمواج المحيط المتلاطمة على السطح، فهناك في الأعماق البعيدة، أمر آخر.

 وفي تطبيقه فلسفة مكر التاريخ على الفظائع المروعة في منطقتنا: من قَتْل وسحل وحرق وسبي وتهجير وترويع للملايين، وتصدعات أصابت مجتمعاتنا ودول وباتت مهددة بالزوال، وصعود لهويات عقدية وطائفية ضارية معادية للبشر والحجر، يرى هاشم صالح أن كل ذلك ضرورة، لأن التاريخ في حاجة إلى كل ذلك، ولكي يدرك الناس حقيقة ما يعيشون من أوضاع وثقافات، ويعيدوا النظر فيما يقدسونه من أفكار ومفاهيم وأيديولوجيات، ولأنه ما من شيء عظيم يتحقق إلا من خلال الصراعات الدموية والأهواء المتناقضة، وهو ما حصل سابقاً في تاريخ الشعوب الأوروبية، ولكن التاريخ في النهاية "عقلاني" رغم كل الفوضى الظاهرة!

ويطبق تركي الحمد فلسفة مكر التاريخ على غزوات نابليون، فيقول: رغم أن نابليون حين كان يغزو البلدان سعيا إلى مجده الشخصي ومجد فرنسا، فإنه لم يكن يعلم الآثار البعيدة والخفية لهذا الغزو، ولم يكن يعلم أنه وهو يسعى إلى تحقيق أهدافه الخاصة، كان مجرد مطية لتحقيق أهداف التاريخ، في تغيير المجتمعات وتجاوز الأوضاع، لقد كانت الثورة الفرنسية ومبادئها التي كانت تسير في ركاب الغزوات النابليونية، أعظم محرض لتطور الأدب والفلسفة والروح القومية، وما كانت للحداثة أن تطأ أرض العرب لولا الصدمة الأولى قبل قرنين، بالحملة الفرنسية على مصر والمشرق العربي، وما كان للعرب أن يستفيقوا على تخلف مناهجهم التعليمية وجمود منابرهم الدينية، لولا تفجيرات 11/ 9 قبل 15 عاماً، وصعود دولة "داعش" وبقية التنظيمات المتطرفة!

 جوهر التاريخ، عند هيغل، هو العقل، لكن الهدف الكوني للعقل الكلي لا يتحقق إلا عبر أكثر محطات التاريخ رعباً وأكثرها تلبساً بالطغيان والموت والفواجع والاقتتال والدماء وإهلاك الحرث والنسل، لأن هذه المحطات المرعبة، وطبقا لمجدي كامل، هي وحدها القادرة على إيقاظ الوعي الجمعي المحفز على النهوض والتجاوز والارتقاء، والغربيون لم يستطيعوا تجاوز محنهم الدينية والمذهبية وغيرها إلا بعد حروب عنيفة، سفكت أنهاراً من الدماء ودمرت مدناً كاملة، بين جناحي المسيحية: الكاثوليك والبروتستانت، ليصلا في النهاية إلى قبول وتعايش.

 يرى الكاتب السعودي يوسف أبا الخيل، أن ذلك هو ما سيحصل في النهاية بين الشيعة والسنة الذين يمرون بظروف البروتستانت والكاثوليك نفسها، فالعقل الكلي سيعلمهم، في نهاية المطاف، أنهم لن يقضوا على بعضهم، وأن أيا لن يفرض مذهبه على الآخر.

ختاماً: أتصور أن بعض مضامين فلسفة مكر التاريخ يتقارب مع توجيهات القرآن الكريم، من أن الإنسان مبتلى بالخير والشر والحزن والفرح، وأن عليه الصبر وعدم الجزع، فإن الإمور، خيراً أو شراً، ليست بظواهرها "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ".

 وفي القرآن شواهد لجدلية الشر المفضي إلى الخير، قصة إلقاء أم موسى لولدها في البحر، وقصة يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته، فالله سبحانه وتعالى يقدّر على عباده ضروباً من المحن والشدائد، وصولاً إلى صقل معادنهم وسوقاً إلى كمالهم، ومجتمعاتنا تخوض اليوم صراعات ومحنا وتحديات، وتدفع أثمانا باهظة من أبنائها ومقدراتها، لكنها في النهاية ستتجاوزها إلى غد أفضل بإذن الله تعالى.

* كاتب قطري

back to top