عام 1983 فوجئنا بفيلم «البداية» للمخرج الكبير صلاح أبو سيف، الذي كتب قصته وشارك في صوغ السيناريو مع لينين الرملي، الذي انفرد بكتابة الحوار، متبنياً رؤية كوميدية سياسية للعلاقة الجدلية بين «الدكتاتورية» و»الدمقراطية». ولأن «أبا الواقعية» أدرك أن الفيلم جاء مغايراً لكل ما قدم سابقاً فإنه صدَره بلوحة تقول: «هذا الفيلم ليست له صلة بالواقع بل هو تخريفة من تخاريف المخرجين فإذا لم يعجبكم فأرجو أن تروه مرة ثانية، أما إذا أعجبكم فأرجو أن تروه مرة أخرى»!

Ad

تذكرت تلك اللوحة وأنا أتابع تجربة المخرج محمد خان في فيلمه الجديد «قبل زحمة الصيف»، الذي يمثل «حالة خاصة» أو «نزوة سينمائية» تمرد من خلالها على «الرصانة الزائفة» للمجتمع، وتسلل، بجدة وحيوية، إلى أغوار النفس البشرية، من خلال خمسة أشخاص قادتهم الظروف إلى التواجد في قرية ساحلية «قبل زحمة الصيف»، أولهم: الطبيب «يحيى» (ماجد الكدواني) الهارب من تورّط مستشفاه الخاص في انحراف مهني، وزوجته «ماجدة» (لانا مشتاق) التي تعاني إهمال زوجها بسبب بدانتها فتهرب إلى التأمل على طريقة «اليوغا»، لكن الغيرة تتملكها عقب وصول المطلقة «هالة» (هنا شيحة)، التي اختارت التواجد في القرية في هذا الوقت من العام لتنتهي من تأليف كتابها، وتلتقي عشيقها الممثل الفاشل «هشام» (هاني المتناوي) الذي تُنفق عليه، بينما يبدو الجنايني الصعيدي «جمعة» (أحمد داود)، الذي حل مكان شقيقه المسافر كي يتزوج في الصعيد، سعيداً بالقرية الخالية، ومخلصاً لسكانها القليلين، ومتفانياً في عمله، لكنه كأي مراهق تقتله الرغبة في التقرب إلى المطلقة الحسناء، غير أنه يعرف حدوده، ويكتفي بأحلام اليقظة!

أثناء انعقاد الدورة 15 للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش (4-12 ديسمبر 2015) قال المخرج الكبير فرنسيس فورد كوبولا: «اليوم لا يمكنك أن تجرّب أو لا تجرؤ على ذلك لكن ينبغي علينا أن نكون أحراراً للاختبار والتجربة»، وهو ما فعله محمد خان، الذي بدا متشبعاً بروح التجريب والتجديد والمغامرة، والرغبة في كسر الأشكال التقليدية، كما بدا مؤمناً بنصيحة «كوبولا»، التي قالها في المحفل السينمائي العربي ذاته: «أنجز الفيلم القادر وحدك على إنجازه»، وراغباً في الوصول إلى الفيلم الذي يُطلق عليه «فيلم محمد خان»، من ثم لم يلق بالاً أو اعتباراً لما يريده النقاد أو ينتظره الجمهور، وضرب عرض الحائط بكل «الكليشيهات» و»النظريات»، وراح يقدم الفيلم الذي يُرضي غروره، ويأتي على هواه!

في غير مناسبة، أكّد خان أن فكرة الفيلم تملكته أثناء تواجده، هو وزوجته، في إحدى قرى الساحل الشمالي، «قبل زحمة الصيف»، ولحظتها سأل نفسه: «ماذا لو صنعت فيلماً عما يمكن أن يفعله أشخاص يعيشون وحدهم في مكان كهذا في هذا التوقيت؟». ولم يتردد خان في التعاون مع كاتبة السيناريو غادة شهبندر، ونورا الشيخ التي شاركت في كتابة الحوار، وقدم فيلماً صارماً في خطوطه، وشخوصه، الدرامية، لا يعرف الثرثرة ويصعب على الجمهور التنبؤ بما ستذهب إليه أحداثه. فالحدث الدرامي التقليدي الذي يقلب الأمور رأساً على عقب، لا وجود له، وباستثناء إشارات غير مباشرة لتطور التحقيقات في قضية فساد المستشفى الاستثماري، واكتشاف «هالة» انتهازية عشيقها «هشام» وجشعه، واتخاذها قراراً بطرده من القرية، ومن حياتها،  يحافظ الفيلم على سرده التأملي، الذي قد يبدو للبعض رتيباً. ويستمر «يحيى» في التلصص على «هالة»، ويفرض نفسه على مأدبة عشاء لديها ثم يدعوها إلى مأدبة سمك في الشاليه الخاص به وزوجته، من دون أن يطمح إلى إيقاعها في حبائله، كما هو متوقع. ويواصل «جمعة» حلمه بالأنثى المطلقة، ولا يصل إلى جسدها إلا في خيالاته، فالمطلقة عند محمد خان ليست المرأة سيئة السمعة، التي يحق للمجتمع أن يُشهر بها، أو ينهش سيرتها، لأنها تواجدت في مكان ناء بمفردها، أو ارتدت «المايوه» على الشاطئ، واستقلت الدراجة في الشوارع. بل هي شريك فاعل في المجتمع، تملك حريتها كالرجل، وقادرة على كسر القيود المفروضة عليها، ومن ثم فليس لأحد الحق في مصادرة هذه الحرية، كما فعل «جمعة» عندما طارد الفتى والفتاة الأجنبيين على الشاطئ!

حرص خان على ألا يدع شيئاً يجرح خصوصية تجربته، وإن تمنيت ألا يلجأ إلى الرمزية أو الإسقاط، عبر مشهد تحرش القط بالببغاء، وتعمده ربط الأحداث بأيام الأسبوع بشكل لم يضف جديداً. كذلك كان لافتاً أيضاَ ضعف ميزانية الفيلم، ما انعكس على اختيار الفكرة، وطاقم الممثلين، الذين أحسن خان، كعادته، توظيف قدراتهم، فضلاً عن أدواته الفنية الرائعة، كالتصوير (فيكتور كريدي)، الديكور (هند حيدر)، الموسيقى (ليال وطفة) والمونتاج (دينا فاروق)، التي أتصور أن مهمتها كانت ثقيلة في هذا الفيلم غير التقليدي، على صعيدي السرد والشكل.

في «قبل زحمة الصيف» يمارس المخرج محمد خان هوايته، ويصنع فيلمه بطريقته حتى لو نظر إليه البعض بوصفه «شطحة»!