باروك - باخ

نشر في 10-04-2016
آخر تحديث 10-04-2016 | 00:01
 فوزي كريم مراحلُ تاريخ الموسيقى الكلاسيكية صارت مألوفة: المرحلةُ المبكرة، والباروك، والكلاسيكية، والرومانتيكية، والحديثة. الذائقةُ تحلّقُ حولَ المراحل كطائر مفتونٍ بثمارها جميعاً. ولكن للذائقةِ دوافع شخصية تُفردها، كأنْ تُفضل موسيقى وموسيقيي المرحلة الرومانتيكية على غيرها. ولكنها، رغم ميلها الطبيعي للتفضيل، تبقى أمينةً للمراحل جميعاً. فالإحاطةُ سمةُ الذائقة الرفيعة. ثم أن للذائقة مزاجا قُلّبا، يميل بها وفق مصلحته، بين حين وآخر.

 أنا مولعٌ بالألماني باخ (1685ـ1775)، المنتسب لمرحلة «الباروك»، التي ختمها بموته. وهي الثمرةُ اليانعة لعصر النهضة الذي سبقها. بدأتْ بابتكار الأوبرا سنة 1600، على يد الايطالي مونتـﭬيردي، وهي من أروعِ المنجزات، لمن يطمعُ باحتضان الموسيقى والشعرِ والمسرحِ في مُنجزٍ إبداعي واحد. وابتكرتْ فنوناً لا عهد للموسيقى المبكرة بها، كفن الكونشيرتو، وفنون الأوراتوريو، والكانتاتا. وكانت لباخ السيادةُ فيها جميعاً، باستثناء الأوبرا. مع أني لا أفتقدُ فنَّ الأوبرا حين أُصغي لفن «الأوراتوريو» و»الكانتاتا» لديه. فبينهما أكثرُ من عنصرٍ مشترك. حتى أن مِن المحدثين في أيامنا من أخرجَ عمليْ «الآلام» Passions، و»عيد الميلاد»، إخراجاً مسرحياً. واطلعتُ مؤخراً على من أخرجهما إخراج البالبه.  

 ومن جوانبِ عظمةِ باخ أن موسيقاه طيعة بين يديْ مهارات المؤدين والعازفين، لا على خشبة المسرح وحدها، بل في التوزيع الأوركسترالي، واستبدال الآلات ببعض. حتى صرنا نصغي لألحانه تتردد في إيقاعات الجاز والروك.

 «الأوراتوريو»، لمن لا يعرفه عمل موسيقي درامي قد يمتدُ إلى ساعاتٍ ثلاث، يعتمدُ النصَّ الكلامي فيه على حدث يتطور على يد شخوص. وعادةً ما يكون مستوحىً من مصدر ديني. و»الكانتاتا» عملٌ مُصغرٌ على شاكلتِه، لا يمتد إلى أكثر من 30 دقيقة. وكلاهما يعتمد التناوبَ بين أداءِ الأوركسترا، وأصواتِ المغنين المنفردة، والكورس. أداءُ المغنين قد يكون في أغنيةٍ تامةِ اللحن، أو في كلامٍ مُرتلٍ مع قاعدة موسيقية خفيضة، ويُدعى «الرسْتتيف». ولباخ ثلاثة أعمال جليلة من فن الأوراتوريا، وقرابة 300 كانتاتا، وضعها جميعاً في كنيسة القديس توماس في مدينة لايبزج، في السنوات الثلاث الأولى من استقراره فيها. كان عليه أن يؤلف، باعتباره مجرد قائد جوقة صبيان، واحدةً لكل يوم أحد.

 ينتسب باخ لعائلةٍ تتوارث الموسيقى تأليفاً وأداءً، لأجيال عدة. ومع كلِّ ثقتِه التامة بقدراته، لم يحظَ باعترافِ أحدٍ من عصره ولا العصر التالي له. إلى أن دبّت موسيقاه في وعي الموسيقي الشاب «مندلسون»، في المرحلة الرومانتيكية، فقدم للناس عملَه الجليل «الآلام برواية القديس مَتّى» St. Mathew Passion، فأخذتهم دهشةُ الإعجاب إلى مدى، صار المعنيون فيه يبحثون عن سرّ عبقريته، حدّ فحص ما تبقى من جمجمته.

 المؤلف «وَلفرَد مَلَرز» وضع كتاباً عن باخ في 1980 بعنوان: «باخ ورقصُ الآلهة». والجمع بين الطرفين يليق به. لأن موسيقاه لا تتوقف عن الرقص. ورقصُه جسديٌّ وروحيٌّ في آن، حتى لو كان العملُ مستوحىً من إيمان باخ البالغ الصفاء. وهل يمنع الإيمان الصافي عن الرقص؟

 إذا كان الرقص يعتمد عنصرَ «الإيقاع» بالدرجة الأولى، فإن باخ يُشركه بعنصرٍ لا يقلُّ جوهريةً هو «الهارموني»، لأنه سيدُ الهارموني دون منازع. وهو هارموني بالغُ التعقيد في التقنية. ولكنه يأتيك عبر مذاقِ ثمرة ناضجة، رغم أن معرفةً أوليةً بنسيجه تمنحُك فيضَ عاطفةٍ لا مدى لسحرها. استعنْ بـ»اليوتيوب» للإصغاء إلى The Art of Fugue، مثلاً، ستجده على «الأورغن»، وعلى البيانو، وعلى الأوركسترا، وعلى الرباعي الوتري. ولك أن تصغى إلى الجزء الأول الكورالي من The Mass in B miner، لتقع على آية من آيات فن «الفيوﮒ» هذا. ومن الصعب أن أدلك على أغنية بعينها، لأن الكانتاتات وحدها تحتفظ بمئات الجواهر. وإذا شئت هذا فاذهب إلى أغنيةٍ لا أملُّ من إعادتِها دون إشباع، في الكانتاتا رقم 82، حركة 1 وحركة 3. أو كانتاتا 140، الحركة الرابعة.

 إن الهاجسَ الديني لدى باخ عظيمُ الرحابة، بحيث لا يمكن قصرُه على عقيدة. إنه احتفاءٌ بسمو الإنسانِ ونبله.

back to top