بين الاستراتيجي والمرحلي
من ضمن أسباب الفشل السياسي في تغيير الواقع عدم قدرة الناشطين في المجال السياسي العام، نتيجة لتدني الوعي، على التمييز بين المراحل الاجتماعية- الاقتصادية التي يمر بها عادة المجتمع وطبيعة مهام كل مرحلة، ناهيك عن أنهم، أحياناً كثيرة، لا يأخذون في الاعتبار موضوع المواءمة السياسية، فتراهم يتجاوزون متطلبات المرحلة السياسية الحالية ونوعية الاصطفاف السياسي المطلوب، ويخلطون بين أهداف استراتيجية لم يحن بعد وقت طرحها وتداولها، وذلك لأن الظروف سواء الموضوعية أو الذاتية أو كلتيهما معاً غير ناضجة، وبين أهداف مرحلية مستحقة ومُلحة تحتمها طبيعة مرحلة التطور الاجتماعي-الاقتصادي-السياسي، إذ إن لكل مرحلة طبيعة خاصة، وأولويات محددة، ومهام معينة.إن طرح أهداف استراتيجية مهمة، كالنظام البرلماني الكامل مثالاً لا حصراً، في غير وقتها وفي ظروف غير مناسبة لا تتوافر فيها متطلباتها الأولية، يفقدها قيمتها السياسية ويشوّه معناها لدى عامة الناس، بل تضيع الجهود المبذولة فيها هباء منثورا بدلاً من بذلها في التصدي لقضايا تؤثر مباشرة في حياة الناس اليومية، مثل قضايا الحريات العامة والشخصية، أو لها علاقة في مستوى معيشتهم مثل الخصخصة وخفض الدعم الاجتماعي وزيادة الرسوم وغلاء المعيشة، وبالمثل فإن التركيز على أحداث تاريخية مرت فيها شعوب أخرى ضمن ظروف واقع اجتماعي-اقتصادي مختلف عن واقعنا، أو ترديد مقولات نظرية صرفة قالها فلاسفة كبار لهم وزنهم منذ قرون، ثم إخراجها من سياقها التاريخي، وظروفها الاجتماعية-الاقتصادية والتعامل معها وكأنها حقائق مطلقة صالحة لكل زمان ومكان هو جهل فاضح بطبيعة النظريات الاجتماعية، وبالقوانين العامة التي تحكم تطور المجتمعات البشرية، وأيضا بالمهام الخاصة بكل مرحلة من المراحل.
والشيء ذاته يمكن أن يقال عند تجاهل ما يجري في العالم وعلى مستوى الإقليم، وكأننا نعيش بمعزل تام عما يجري حولنا، أو عند الانشغال في قضايا ثانوية أو هامشية تبرزها، بتعمد واضح، وسائل إعلام قوى الفساد السياسي من أجل إلهاء الناس في خلافات جانبية فيما بينهم على حساب القضايا المعيشية والوطنية المشتركة، ناهيك عن سلبيات القراءة السطحية للأحداث السياسية-الاقتصادية، والتطورات المتسارعة والمعقدة والمتشابكة والمتناقضة أحياناً، ثم الوصول، بناء على ذلك، إلى أحكام قطعية ثنائية الطابع تنمّ عن سذاجة مفرطة وعدم وعي وكيل بمكيالين، وقد يترتب عليها اصطفافات سياسية خاطئة تعمل ضد المهام المرحلية التي من المفترض تحقيقها.من هذا المنطلق تأتي أهمية التثقيف الذاتي الجاد من أجل المساهمة في نشر الوعي العام في المجتمع حول طبيعة المرحلة ومتطلباتها ونوعية التحديات التي تواجه مجتمعنا سواء داخلياً أو خارجياً، كما تأتي أيضا أهمية قيام قوى التغيير المدني الديمقراطي والتقدم الاجتماعي بإجراء مراجعة نقدية شاملة لبرامجها وطريقة عملها من فترة لأخرى من أجل نقد الذات والاعتراف بالأخطاء وتصويبها، ثم إعادة الاصطفاف السياسي مع القوى الأخرى على أسس سليمة تتطلبها طبيعة المرحلة التي يمر بها المجتمع، والمهام المطلوب إنجازها من ناحية، وطبيعة موازين القوى الاجتماعية-السياسية من الناحية الأخرى.