دليل الزعماء إلى الخطبة العصماء

نشر في 06-03-2016 | 00:01
آخر تحديث 06-03-2016 | 00:01
 ياسر عبد العزيز الخطاب عملية معقدة تهدف إلى زيادة طاقة التأييد لدى المحبين، ونقل المحايدين إلى موقع المساندين، وتقليل ذرائع المعارضين، وسلب الكائدين والأعداء الوسائل التي تمكنهم من النيل من القائد ومنظومة عمله.

س: لماذا يخطب القادة في الجمهور؟

الحديث إلى العموم هو أهم وسائل الاتصال التي يستخدمها الزعماء والقادة. إن تغير طبيعة الاتصال وظهور المستجدات التكنولوجية لم يحدا من أهمية الخطاب، بل ربما زادا من هذه الأهمية.

يُعرف أرسطو الخطابة بأنها "قدرة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحد من الأمور"، ويصفها ابن رشد بأنها "القدرة على النظر في كل ما يوصل إلى الإقناع في أي مسألة من المسائل".

س: وهل هناك مدارس مختلفة في الخطابة؟

ج: بالطبع ليست الخطابة مدرسة واحدة بكل تأكيد، بل إن هناك من يرى أنها مترادف للكذب والاحتيال، وفي هذا يقول محمود درويش: "الخطابة هي الكفاءة العالية في رفع الكذب إلى مرتبة الطرب، وفي الخطابة يكون الصدق ذلة لسان".

وهناك من يضاعف قيمتها وأثرها، ويعتقد أنها تمتلك قوة فعل وتأثير ساحرة، ربما لا تقل عن قوة السلاح؛ وفي هذا يقول إيليا الحاوي، في كتابه "فن الخطابة"، إن "الخطابة ربيبة السلاح، تواكبه، وتعوض عنه، وأحياناً كثيرة تشحذه، وتحفزه، وتقتحم ملاحم الدمار والتقتيل والمنكر وما إلى ذلك مما ألف الناس دعوته بطولة ومجداً".

س: الخطابة إذاً فعل شرير، منبت الصلة عن الصدق والمنفعة الحقيقية للناس؟

ج: هذا ليس صحيحاً على الإطلاق. وربما تولد هذا الانطباع إثر امتلاك عدد من القادة الديماغوجيين قدرات خطابية عالية.

فقد كان الزعيم الكوبي فيديل كاسترو أحد أكثر الرؤساء تعلقاً بـ"المايكرفون"، ورغبة في مخاطبة الجماهير، وقدرة على استمرار التحدث لساعات طويلة دون كلل أو ملل، وبصرف النظر طبعاً عن حالة المستمعين الذين كانت توقعهم الظروف تحت رحمته.

أما العقيد القذافي فقد كان صاحب مدرسة خطابية شهيرة وفريدة في آن، بل إنه أيضاً أضاف مسحة "كوميدية" ومقاربة هزلية إلى أحاديثه السياسية، جعلت لخطاباته نكهة مختلفة، وساعدت مستمعيها على احتمالها، رغم بؤسها الشديد.

وكان الزعيمان التاريخيان هتلر وموسوليني من مدرسة تعتبر الخطابة جزءاً حيوياً ورئيساً من قدرات الزعيم على الحشد والإلهام والتعبئة، بل الفعل السياسي. وبقدر ما أغرق هذان الزعيمان جمهورهما في النشوة، وأقاما للجماهير قصوراً من الكلام الرنان في الهواء، بقدر ما قادا هذه الجماهير إلى الانكسار والهزيمة المذلة.

س: وما الهدف من الخطاب؟

ج: الهدف من الخطاب، على عكس ما يفهم البعض، ليس سوى "خلق المطاوعة". أي أن الرئيس أو الزعيم، في أي بلد، يريد أن "يخلق مطاوعة" لدى قطاعات من المستهدفين بالاتصال. و"خلق المطاوعة" لا يعني الحصول على التأييد المطلق من الجميع، ولكنه عملية معقدة تهدف إلى زيادة طاقة التأييد لدى المحبين، ونقل المحايدين إلى موقع المساندين، وتقليل ذرائع المعارضين، وسلب الكائدين والأعداء الوسائل التي تمكنهم من النيل من القائد ومنظومة عمله.

س: وكيف تراعي رسالة واحدة كل هذه المستويات في آن واحد؟

ج: هذا هو السبب الذي جعل "الخطاب إلى العموم" فرعاً من العلم، تصدر عنه الأبحاث والكتب والتحليلات، وهو أيضاً السبب الذي جعل الزعماء والقادة يتدربون طويلاً وباستمرار لإتقانه، وجعلهم أيضاً لا يستهينون بأثره، ولا يرتجلون إلا فيما ندر، ولا يصمون آذانهم حين تأتيهم الانتقادات والتحذيرات بشأن تورطهم في أخطاء اتصالية أثناء مخاطبتهم للعموم.

س: لكن القائد مثقل بهموم ومسؤوليات، وليس لديه الوقت الذي يخصصه للتدريب على الاتصال؟

ج: لا يوجد ما هو أهم من "خلق المطاوعة" بالنسبة إلى القائد... تلك هي أهم مسؤولياته. من دون مساندة الجمهور، ودولاب العمل في الدولة، لا يمكن لقائد أن يحقق نصراً أو إنجازاً أو يواجه تحدياً، وهنا تبرز أهمية امتلاك الزعيم قدرات خطابية عالية.

س: أليس الإنجاز على الأرض عملاً أكثر أهمية من الكلام؟

ج: لا. ليس بالضرورة. الإنجاز مسألة مهمة وحيوية وملموسة وصلبة، لكن تسويق السياسات لا يقل أهمية عن السياسات نفسها أحياناً. الناس لا يشعرون سوى بما يعرفونه، ولذلك فإن الكثير من الجهود التي لا يتم تسويقها جيداً، لا يدركها الجمهور على النحو السليم.

س: وما الذي يمنع أن يكون القائد تلقائياً وفطرياً ومباشراً وعلى سجيته، ألا يساعده هذا على الوصول إلى قلوب محبيه، وتكريس عواطفهم نحوه وتأكيد ثقتهم به؟

ج: قد يكون هذا صحيحاً بالنسبة إلى قطاعات الجمهور الموالية والمحبة، لكن ماذا عن هؤلاء المحايدين، أو الكارهين والناقدين والمشككين، أو المتربصين والمتصيدين. يجب ألا تكون التلقائية والعفوية سلاحاً يستخدمه أحد ضد القائد، ويجب ألا يخاطب زعيم جماعته أو معجبيه فقط.

س: لكن هذا الأمر يبدو غاية في التعقيد، فهل هناك أمثلة للخطابات الناجحة لتوضيح الأمور؟

ج: بالطبع هناك أمثلة عديدة. فهناك مثلاً خطاب أوباما في "بوسطن"، عام 2004، وهو الخطاب الذي رأى كثير من المتخصصين أنه "جعل منه رئيساً"، وخطاب بلير في ختام ولايته الثالثة كرئيس وزراء للمملكة المتحدة، بل هناك أيضاً خطاب السادات في الكنيست الإسرائيلي.

س: وما الذي يميز مثل تلك الخطابات؟

ج: يميز تلك الخطابات، وغيرها الكثير، عدم الارتجال، والإعداد المسبق الجيد، الذي يشمل التدريب على إلقاء النص ولغة الجسد، وأنها توزع اهتمامها على المستويات كلها: المحبون، والمحايدون، والمتابعون، والمراقبون، والكارهون، والمتصيدون.

س: وكيف نعرف أن خطاباً ما نجح في تحقيق هدفه؟

ج: عندما نفرغ منه، فنشعر أن نسبة تأييدنا بين مساندينا زادت، وأننا استقطبنا بعضاً من المحايدين والمترددين إلى صفوفنا، وأن المتابعين تحدثوا عن خطابنا باحترام وفي الموضوع، وأن الكارهين والمتصيدين لم يجدوا شيئاً يفتعلون به أزمة، أو يصرفون به الأنظار عن رسالتنا.

س: وكيف نعرف أننا فشلنا تماماً؟

ج: حين يخفق مؤيدونا في الدفاع عن أدائنا، ونخسر المحايدين تماماً، ونعطي الكارهين الأداة التي يمكن أن يقوضوا بها اعتبارنا. وحين نفقد الاعتبار، يصبح من السهل الإطاحة بنا.

* كاتب مصري

back to top