في الوقت الذي كانت الحكومات السابقة تخشى المجالس النيابية المتعاقبة، لتجنب حجم الصدام مع المعارضة السياسية، أصبحت الحكومة اليوم تخشى القضاء وأحكامه ببطلان قراراتها أو بعدم دستوريتها أو بإلغائها، وهو أمر محمود يعبر عن صلابة الأحكام القضائية في ظل تراجع دور الرقابة في المجالس النيابية منذ عام ٢٠١٢.

Ad

الأحكام القضائية التي أصدرتها المحكمة الدستورية أو حتى جزء من القضاء الإداري منذ عام ٢٠١٢، بدءا من بطلان مجلس فبراير ٢٠١٢، ومرورا ببطلان مجلس ديسمبر ٢٠١٢، وحتى الأحكام اللاحقة التي تكاد تكون شبه شهرية في إحدى السنوات، تؤكد أن للقضاء دورا جديدا في صيانة نصوص الدستور وكفالة الحقوق والحريات التي نص عليها الدستور.

لست معنيا بتناول التبعات السياسية التي أحدثتها أحكام المحكمة الدستورية، على الأقل تلك المتصلة بنوعية المجالس التي أبطلتها المحكمة الدستورية، وما يهمني هو الدور الذي وصل إليه قضاؤنا الدستوري من تطور وتقدم في إصدار الأحكام بعدم دستورية القوانين أو اللوائح دون تردد أو تشدد، كما كان عهد المحكمة الدستورية قبل 15 عاما.

كما أن القواعد التي وضعتها المحكمة الدستورية خلال السنوات الماضية كفيلة بحسم ثلاث قضايا رئيسية مهمة فرضتها على الحياة السياسية في الكويت، وهي أولا دورها في الرقابة على العملية الانتخابية وامتداد تلك الرقابة إلى المراحل التي تسبق العملية الانتخابية، وثانيا تحللها من نظرية أعمال السيادة وإخضاع كل القرارات والمراسيم مهما كانت لرقابتها وإعمال أحكام الدستور عليها، وثالثا وضع حد لسيل مراسيم الضرورة التي تصدرها الحكومات في ظل غياب المجالس، فأسبغت عليها رقابتها وقررت ضبطها إلى درجة ستخشى الحكومات في السنوات المقبلة من استخدامها خشية إلغائها مع تحملها تبعات ترتيب الآثار التي تحدثها تلك الأحكام، وبذلك يكون القضاء خلال السنوات الماضية فرض نفسه كضابط قانوني لميزان الحياة النيابية، وما يتصل بها من قرارات تصدرها الحكومات بدعوى التنظيم.

والمتتبع لأحكام المحكمة الدستورية، وآخرها عدم دستورية إحدى الفقرات الخاصة بالمادة التاسعة من قانون جمعيات النفع العام، يدرك حجم الحماية التي تريد فرضها على حق الأفراد بالتقاضي، تعزيزا لدور القضاء الذي رسمه الدستور، وبرفضها تحصين أي قرار من الطعن مهما كان، حيث قالت المحكمة في حيثيات حكمها إن الدستور الكويتي «حرص على النص في المادة ١٦٦ من الدستور على كفالة حق التقاضي للناس كافة كمبدأ دستوري اصيل، والمستفاد من هذا المبدأ هو حظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو تصرف أو قرار من الطعن عليه، وأنه وإن كان لا تناقض بين هذا الحق وبين جواز تنظيمه تشريعيا إلا أن ذلك مشروط بألا يتخذ المشرع من هذا التنظيم وسيلة إلى حظر هذا الحق أو إهداره، كما تضمن الدستور النص في المادة ٢٩ منه على أن الناس متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات».

وأضافت المحكمة أن «حق التقاضي من الحقوق العامة التي كفل الدستور المساواة فيها، فإن حرمان طائفة معينة من هذا الحق مع تحقق مناطه، وهو قيام المنازعة على حق من حقوق أفرادها ينطوي على إهدار لمبدأ المساواة بينهم وبين غيرهم من الأفراد الذين لم يحرموا من هذا الحق، ولا ريب في أن الدستور إذا حدد وسيلة معينة هي المطالبة القضائية للوصول إلى الحق تعين التزام هذه الوسيلة، ولا يجوز للسلطة التشريعية أن تهدرها».

وبإنزال ذلك النهج الأخير بحكم المحكمة الدستورية، الذي عبرت عنه بعدد من الأحكام القضائية التي صدرت مؤخرا، يتبين أن كل قانون أو لائحة يحمل في طياته صراحة أو ضمنا حظرا على القضاء يعد مخالفا للدستور، والتي أرى منها الفقرة خامسا من قانون إنشاء الدائرة الادارية، والتي تحرم القضاء من نظر مسائل الجنسية والإبعاد، والتي تمثل خرقا حقيقيا لحق التقاضي الذي كفله الدستور وفق المادة ١٦٦، والتي أتمنى من القضاء الدستوري أن يتصدى لتلك الفقرة، تأكيدا لدوره الذي قررته المادة ١٧٣ من الدستور.