في مقابلة منشورة في جريدة القاهرة الأسبوعية، الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية بتاريخ 6 مارس الجاري، يقول الروائي التركي الحائز جائزة نوبل للآداب أورهان باموق: "إن كنت ساخراً أو غير مؤمن بصدق بقوة الأدب، يجب أن تتجنب قراءة الكتب، ففي النهاية قراءة الأدب موضة قديمة، والآن هناك المدونات والإنترنت، وهما يتيحان كمية هائلة من المعلومات والثقافة". في هذه الفقرة يفرّق أورهان بين نوعين من القراءة؛ الأولى قراءة معمّقة تؤمن بقوة الأدب، بما يعني تأثيره على الروح والوعي، والثانية قراءة تحبّذ الذهاب إلى العابر من الكلام، إلى نتف المعلومات وهي متاحة، بل إنها أصبحت اليوم متاحة أكثر من أي وقت مضى. وإذا كانت مقولة سقراط؛ "تكلم حتى أراك" لا تبرح تلازمني كلما دخلت أحد مواقع التواصل الاجتماعي، فإنها تتجلى أمامي في موقع "تويتر" حيث التغريدة الصغيرة تدلّ وتكشف معدن كاتبها.

Ad

في الإعلام هناك مرسِل ورسالة ومستقبِل. كل مرسل يخاطب أو يكتب رسالته ليرسل بها إلى مستقبل، سواء كان هذا المستقبل شخصاً معيناً أو فئة من الناس. لذا تجد في "تويتر" الداعية الديني الذي يرى في تغريداته استكمالاً شرعياً لدوره في مخاطبة أتباعه ومريديه. وهناك السياسي الذي يروّج أفكاره. والفنان الذي يبث أخباره ورسائله لعشاقه ومعجبيه. وهناك العاشق المتشوق لرؤية حبيبته، ولذا يرسل إرشارات حبه وولعه إليها، وهناك الفتاة المختفية خلف صورة مثيرة متخذة من "تويتر" فسحة يومية ما عادت تطيق العيش دونها.

وسائل التواصل الاجتماعي احتلت الفضاء الافتراضي للعالم وخلقت نجومها، وسرّبت بشكل خفي طبيعتها العصرية لمفرداتهم وكتاباتهم وآرائهم. لذا تجد المئات من الكتّاب الذين عرفهم جمهور الفكر والإبداع والثقافة العربية بشكل، وصاروا يمارسوا حضورهم على شبكات التواصل الاجتماعي بشكل آخر!

كتّاب كُثر كانوا محسوبين على الفكر والمفكرين والإبداع والمبدعين والبحث والباحثين وجمهور القراءة المتعمقة الفاحصة. كتّاب تركوا هذا كله، بعد أن أغرتهم علاقات الفضاء الافتراضي وأعداد المتابعين الكاذبة وتعليقات جمهورهم المبتسرة. وهرولوا ليتخذوا من منصات شبكات التواصل الاجتماعي، ومخاطبة جمهورهم "التويتري" أو "الفيس بوكي" أو "الإنستغرامي"، شأناً شخصياً يقومون به على مدار الساعة. هذا التواصل المخبّأ تحت حروف الكمبيوتر أو التلفون الذكي، ضمن لهم جمهوراً جديداً متنوعاً حاضراً ومتجاوباً على مدار الساعة، مما انعكس بشكل جلي على كتاباتهم وآرائهم، وبذا انتقلوا من وعي إلى آخر، ومن جملة إلى أخرى، ومن مرتبة إلى مرتبة مغايرة.

ليس سراً أن كثيراً من المفكرين العرب والمبدعين، انتقلوا لمخاطبة ومغازلة جمهور الفضاء الافتراضي. جمهور مختلف، جمهور يخوض في أي رأي ويتناول القضايا الفكرية والإبداعية بشيء من البساطة التي لا تليق بها. وبذا استطاع الكاتب أو المفكر أو المثقف أن يجد له منصة جديدة لنشر أفكاره، واستطاع من جهة أخرى أن يرضي غروره بوجود متابعين كثر، ينتظرون جملته ويسعدون بالتواصل معه. هذا الشأن كرّس ظاهرة الخطاب الافتراضي. خطاب يختلف تماماً عن خطاب الأبحاث والمقالات المعمقة ووجهات النظر التي تستند إلى الحجة والبرهان. خطاب لحظي عابر يخاطب جمهوراً "عابراً في لحظة عابرة".

إن ظاهرة الوصل بين المبدع وجمهور شبكات التواصل الاجتماعي، فرضت على بعض المبدعين، وربما دون أن ينتبهوا لذلك، شكلاً من الكلمة والجملة والفكرة، وهذا الشكل بالضرورة يتناسب وطبيعة ومزاج جمهور تلك الشبكات، مما أثر سلباً على طرح المبدع والمفكر، بل قذف به في دائرة التناقض، فهو المفكر الرصين في القصيدة والرواية والقصة والكتاب والبحث، وهو نجم شبكات التواصل المتباسط الذي يتزيا بزي آخر، ويردد نغمة أخرى.

لكل مقام مقال، هكذا تقول العرب، ومؤكد أن مقام شبكات التواصل الاجتماعي خلق مقاله الخاص، ومعه خلق كاتبه الافتراضي.