إنهم المتذمرون، يقفون حجر عثرة في طريق مجرى الحياة، ينهبون قرص الشمس في رابعة النهار، ويحفرون قبراً عميقاً مظلماً لها في غياهبهم، ويختطفون القمر ليلة مولده ويخبئونه في المرايا المعتمة، حتى لا يراه أحد، فلا يحتفي طريق بنوره أو تهتدي خُطى.

Ad

يدوسون براعم الأزهار لتختلط روحها بالرمل، حتى لا تسري وشاية الربيع في فم الأرض، إنهم يحْشون أعين الشبابيك بالشوك ما بين أجفانها حتى لا تفتحها على صباح أبداً، وما ظهر قوس قزح قط إلاّ وسارعوا بلفّه بعباءة سوداء حتى لا تنكشف عورة ألوانه، المطر في نظرهم ليس تراتيل الغيم لطرد شياطين اليباس، بل لعنة السماء وفاتحة الوحل.

إنهم لا يشعرون بأي نعمة بين أيديهم، ولا يملكون القدرة على الإحساس بالمتعة بأي لحظة مبهجة مهما تعاظمت بهجتها، هم محصّنون ضد السعادة، وقطرات الندى، والإيقاع الراقص في الأغاني، وأجنحة الفراشات الملوّنة، وضحكة الطفولة، ورائحة العطر، إنهم باختصار ضد كل التفاصيل التي تشكل فسيفساء الحياة بصورتها الأكمل.

المتذمرون رُسل الشياطين، وكاتبو سيرة اليأس على صفحات القلوب، وجُبَاة الأمل، وعناقيد الفرح، والابتسامات التي تفتّحت للتوّ على أغصان الشفاة. المتذمرون لا يقتصر أذاهم على أنفسهم فقط، بل تمتد شرورهم إلى أرواح بيضاء لم تمسسها العتمة بسوء، فهم بعد أن يسخّروا جلّ حياتهم لمعاداة الحياة، وتشويه كل ما هو جميل فيها في ذواتهم، يسخّروا ما تبقى من حياتهم لنقل عدواهم لكل من يختلط بهم، حتى أصبحوا هم أنفسهم وباء يجب أن يخشاه كل من لا يزال يؤمن بأن على الأرض ثمة ما يستحق الحياة، وأن يعي عِظَم دائهم كل من لا يزال يرى شمساً تشرق على الكون في كل يوم جديد، وقمراً يمزق جلباب الظلمة كل مساء، فإذا لم يكن بالإمكان إنقاذ المتذمرين من فخ تذمرهم، فيجب على الأقل أن تتم حماية الآخرين من الوقوع بذات الفخ، وهذا حتماً ما انتبهت له الشيخة انتصار العلي، مشكورة، حين أطلقت حملتها التطوعية الجديدة بعنوان "على الجانب المشرق" والتي تهدف إلى صياغة إيجابية للحياة في الذات، ونبذ التذمر والتوعية بآثاره السلبية، إن هذه الحملة بعنوانها اللافت والإيجابي واحدة – في اعتقادي- من أسمى وأهم الحملات التطوعية برغم صعوبة التحدّي، إذ ليس هناك أصعب من بناء روح مليئة بالأمل والتفاؤل في ظل هذا الإحباط المستشري والمُنتج الأساسي لداء التذمر، إن الروح المهزومة من الداخل لا يمكن لها أن تصنع انتصاراً، والذات المظلمة لا يمكنها أن تغزل شمساً للغد أو وطناً مضيئاً، لذا فإن حملة "على الجانب المشرق" لا يتوجب أن تكون حملة تغطي أياماً معدودة، بل لابد أن تصبح منهجاً يدرّس في المدارس في جميع المراحل إن أردنا لهذه المجتمعات أن تشرق.

شكراً للشيخة انتصار العلي لانتصارها للشمس، وانحيازها لرائحة المطر، وعمق إحساسها بمدى خطورة الذات الرافضة للحياة، علماً بأن تلك ليست أول صنائع يدها البيضاء، وحتماً لن تكون آخرها!