ربع قرن على عدوان لا ينسى

نشر في 25-02-2016
آخر تحديث 25-02-2016 | 00:01
 خليل علي حيدر ماذا فعل دكتاتور النظام العراقي البائد باحتلاله الكويت في صيف 1990؟ ما الذي أنزله من دمار بالعراق وشعبه وبالعالم العربي كله؟

لقد دشن ذلك العدوان بلا ريب عصراً جديدا من التراجع والتفكك والتمزق، وأحيا في الثقافة السياسية مبادئ الغزو والتوسع، ووجه ضربة قاسية لقيم التسامح والديمقراطية والتضامن والقانون الدولي، وأجهز بلا رحمة على بقايا التماسك، فانقسم العالم العربي وتياراته إلى كتل مؤيدة وأخرى معارضة... وثالثة تنتظر نتائج المغامرة!

يصعب علينا جميعاً، أعني "جيل الغزو والتحرير"، أن يتصور أن ذلك الحدث الصاعق قد مر عليه اليوم ربع قرن، وأن الالتفات إلى تفاصيله المؤلمة لم يعد موضوع اهتمام الكثيرين. أحد الكويتيين يقول بحسرة: "المواطنون الكويتيون، عادوا للتراخي والتفاؤل مجدداً، ولم يعد هناك أي اهتمام بمستقبل الأمن ولم يعد هناك هاجس، وكأن شيئاً لم يكن، وخصوصاً لجيل الشباب الذي يبدو أنه في غيبوبة تامة عن المنطقة ومستقبلها".

كويتي آخر ممن اشتكو للصحافة العربية في أغسطس الماضي قال"إن هناك اليوم شباباً لا يعرفون شيئاً عما حدث"، وقال رجل أعمال: "إن الغزو الخارجي ليس هو الخطر القادم ولكن الانهيار الداخلي للمجتمع". (الشرق الأوسط، 2/ 8/ 2015).

الكويتيون يدركون عموماً المخاطر المحيطة بمجتمعهم، ولا يزال من عايش تلك الأيام الكوالح المفجعة يتدارسها في صمت، ولكن هل كان رد فعل الجمهور ووعيه السياسي وتكتلاته بحجم التحدي؟ الكثيرون يشتكون من أن "لا الحكومة اتعظت ولا الشعب نضج"، وأرى أن الكويتيين في الواقع قد تعلموا الكثير، ولكن لم يتغيروا بالقدر والدرجة نفسهما.

الأستاذ عبدالله بشارة يلخص "تركة الغزو" في ست نقاط: سقوط المثاليات العربية والإقليمية التي هيمنت على حياة الكويتيين السياسية ردحا طويلاً من الزمن، وتراجع هيبة القانون وانتشار الفساد، ومطالبة الشعب بمزيد من الأمن والحماية، وتزايد الثقة بالنظام الدستوري، واختفاء الأيديولوجيات القومية المتطرفة، وتأكيد "حق الأصدقاء المرابطين كشركاء في الدفاع عن الكويت"، وأن تتناغم الكويت سياسيا وترحب بهم تجارياً، وتمدهم بشبكة من الترابط الثقافي، وتمنحهم الأولوية في المشاركة في برامج التنمية". (القبس، 22/ 2/ 2006).

 هل تعمق الوعي السياسي في المجتمع؟

 إن أقوى التيارات في الوسط الكويتي هو التيار الديني، فهل نضج أو تولدت لديه رؤية مستقلة؟ هل السلف والإخوان ومؤيدو الثورة الإيرانية مثلا أعمق فهماً لتجربة 1990 ودلالاتها؟ بين الإسلاميين الكويتيين الكثير من يتحسر علنا على سقوط صدام الذي وقف بصلابة ضد "المجوس" و"الرافضة" الفرس، مهما كان حجم جريمته في العراق وإيران والكويت. ومن الكويتيين من يعجب "بشجاعة القائد لحظة الإعدام" التي تنم عن بطولة وشهامة! ولكن حتى بعض عتاة المجرمين والسفاحين يجابهون الموت بلا مبالاة "وبسالة" إن كان هذا هو المقياس!

آخرون من الإسلاميين الذين انتقدوا دكتاتورية صدام لم يروا بأساً في أن يمكِّن الإخوان المسلمون لحكمهم في مصر خمسمئة عام، بل طالبوا بضرب عنق مرشح الرئاسة المصري الفريق عبدالفتاح السيسي، مهما رأوا من تغول الإخوان ومحاولتهم المستميتة في "أخونة" كل المناصب، كما كان يفعل صدام والبعث في العراق، في سنوات الهيمنة على العراق.

جماعة ثالثة من الإسلاميين انساقوا منذ سنين ولا يزالون خلف الولي الفقيه، وأسملوا له تفكيرهم السياسي... غير عابئين بتجربتهم الديمقراطية التي تفوق بدرجات ديمقراطية ولاية الفقية، التي يشتكي منها مؤسسو الجمهورية الإسلامية!

لقد أخرجت تجربة الغزو والعدوان عام 1990 الكويتيين من شرنقة التعصب القومي وأحزابه، كما يشير الأستاذ عبدالله بشارة بصدق، ولكن من يخرجهم من سلاسل وحبال وقيود الإسلام السياسي وجماعاته؟ فما إن خرج الكويتيون من كارثة 1990، حتى عادوا للالتحاق بالجهاد في أفغانستان والشيشان والبلقان وكل مكان، وعندما وقعت عملية  11 سبتمبر 2001 أو غزوة مانهاتن، كما يسمونها، كان بعض الكويتيين على رأس هرمها القيادي، لتتواصل بعد ذلك مشاركتهم في "الجهاد" مع جماعات الإرهاب في كل أصقاع الأرض. ونحن نذكر أن الكثير من الإسلاميين الكويتيين لم يُبدِ أي حماس حتى لإسقاط نظام صدام 2003، واحتاجت "حكومة الكويت" إلى كل ما في العالم من شجاعة وجرأة، للانفراد بالسماح لعبور القوات شمالي الكويت نحو بغداد.

وكان من نتائج الاحتلال عام 1990 تراجع المشاعر الطائفية، والتقارب بين الشيعة والسنّة، بعد أن تسممت أجواء العلاقة بسبب الحرب العراقية- الإيرانية التي دامت ثماني سنوات، ولكن هل استمرت مسيرة التقارب؟ وهل أدرك التشيع السياسي الكويتي أهمية استقلالية وضرورة تبنيه رؤى لا تتطابق بالضرورة مع السياسات المذهبية والإقليمية والفكرية التي تمليها مدرسة "ولاية الفقيه"؟ كلا بالطبع، فقد تقلصت حتى "الجماعة الشيرازية"، التي كانت تدافع بعض الشيء عن ضرورة الاستقلالية المذهبية الكويتية والعربية، عن التجربة الإيرانية وسياسات الجمهورية الإسلامية، وتعددت مطالب حزب الله وولاية الفقيه، حتى لم يجد الأتباع بأساً في تأبين "عماد مغنية" في إحدى حسينيات الكويت، بل في التلاحم مع حزب الله والسياسة الإيرانية في سورية والمنطقة الخليجية والعراق... وليكن ما يكون! فأين نضج هذا التيار بعد ربع قرن من كارثة الغزو؟ وأين رؤيته النافذة لمصالح الشيعة خارج إيران؟

ثم هل أزالت سنوات ما بعد الغزو والتحرير الـ25، الجدران الاجتماعية والحواجز بين المكون الحضري والقبلي في مجتمعنا، أم أن الفواصل لا تزال قائمة؟ وماذا فعلت النخب القبلية والحضرية في هذا المجال؟ ونعود إلى ما كتب عن الغزو، فلقد وثّق المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت عام 1995 تفاصيل وآراء جديرة اليوم بالقراءة والتأمل، وبخاصة الجيل الذي لم يعش تلك التجربة المؤلمة، وقد جرى التوثيق من خلال كتاب قيم في 800 صفحة تلخص أعمال ندوة بحثية بعنوان "الغزو العراقي للكويت"، وشارك في الندوة العديد من المثقفين والمفكرين الخليجيين والعرب إلى جانب الكويت، ممن أوفوا الموضوع حقه من البحث والتحليل.

 وكان من جملة المشاركين في تلك الندوة المفكر السعودي د. تركي الحمد، الذي حلل أسباب الغزو ودوافع العدوان، وبخاصة الأسباب الشخصية لقائد العدوان، وكان مما قال: "إذا أردنا تحليل شخصية صدام حسين، متخذ القرار الأوحد في العراق، نجد أن هناك شبه إجماع من المصادر المتاحة على أن هناك عناصر محددة وواضحة تؤطر هذه الشخصية وسلوكها، وذلك بعيدا عن دهاليز علم النفس والسيكولوجيا التي حاول البعض من خلالها إعطاء تفسير شبه أوحد لكارثة اجتياح الكويت. هذه العناصر يمكن تلخيصها في الإيمان بالعنف كوسيلة لتحقيق الأهداف، والإعجاب بالزعامة المطلقة، والتعصب للرأي الذاتي، والحاجز المعرفي مع العالم الخارجي.

فالدارس للسيرة السياسية لصدام حسين سيجد أن العنف كان الصفة الرئيسة المميزة لهذه السيرة، سواء تحدثنا عن مرحلة المعارضة أو مرحلة الحكم، سواء تحدثنا عن العلاقة مع الرفاق أو المعارضة أو الجيران". (الغزو العراقي للكويت، سلسلة عالم المعرفة، 195، ص109-110).

بعض الصور المؤلمة

لقد دفع الشعب الكويتي ثمناً فادحاً لميول هذا القائد وأجهزة استخباراته وأدوات قمعه الدموية، وإن كانت المعاناة الكبيرة هي تلك التي عاشها الشعب العراقي الذي دمر حاضره ومستقبله، ولا يمكن لهذه الذكرى المؤثرة أن تمر دون أن نتذكر بطولات وتضحيات الصامدين والشهداء.

 في الكتاب نفسه قصة واقعية ترويها مواطنة كويتية عن حكاية ترملها وبناتها الثلاث "نوف وفاطمة وهاجر"، والفواجع التي عاشتها الأسرة، حيث كان الزوج ضمن شهداء 1967 في حرب مصر وإسرائيل، وأخذت الأم عهدا على نفسها بألا تزوج بناتها من عسكري مهما كانت رتبته "حتى لا يصبحن أرامل"، إلا أن القدر يشاء أن تتزوج بناتها الثلاث من ضباط عسكريين في الجيش والشرطة.

كان زوج "نوف" عبدالله قبل الغزو بيومين في إجازة خاصة، ثم ذهب للمعسكر بعد انتهائها، وتقول نوف: "استيقظت صبيحة اليوم المشؤوم وأنا بين الحقيقة والخيال، ولم أصدق، وبعد يومين جاء خبر استشهاده". أما شقيقتها هاجر، التي ذهب زوجها إلى العمل منذ اليوم الأول للغزو وانقطعت أخباره، والتي لم يمض على زواجها سوى تسعة أشهر حينما وقع الغزو، فتتذكر بمرارة: "عندما بلغني خبر استشهاده- تقصد زوجها- وهو يدافع عن أرضه، زغردت، وقالوا إنني جننت، ولكن مشاعري تركزت على كل كلمة كان يقولها لي، وهو أنه يحلم بجيش قوي للكويت يكون هو أحد أفراده".

أما قصة الأخت الثالثة "فاطمة" فكانت أشد إيلاماً، إذ إن زوجها "نواف"، وهو ضابط في الشرطة، ودعها في اليوم الأول ملتحقاً بمركز عمله دون أن تعلم عنه شيئاً، وتقول "في صبيحة يوم 22 أغسطس جاءت مجموعة من عسكر اللصوص مدججين بالسلاح واقتحموا البيت وأخذوا يفتشون ويلقون بالأشياء هنا وهناك وسط هلعنا، وسألناهم: ماذا يريدون؟ قالوا: السلاح. بكت أمي وتوسلت وقالت لهم ليس لدنيا سلاح، كفانا أحزاناً أرجوكم... ذبحتم اثنين، أعيدوا لنا الثالث. قال لها على أمرك... حالا سنأتي به. تضيف فاطمة "وبالفعل في السادسة من اليوم نفسه جاؤوا بنواف "زوجي" وصرخت عندما رأيته، كان شبه إنسان متهالك زائغ البصر، لم يستطع أن يتعرف علينا، طلب قليلا من الماء، فهرعت أمي تعطيه، فما كان من الجندي إلا أن ركل الكوب بقدمه فسقط على الأرض، وتوسلت إليه أمي باكية، تقول له: ليش يا وليدي حرام وما يصير احنا كلنا أوادم، قال لها زاجراً: قولي له يعترف على السلاح.

فقام نواف وبصق في وجهه، فما كان من المجرم إلا أن صوّب رشاشه إلى رقبته وأرده قتيلاً وسط الغرفة، ولم ندر إلا والجيران ملتفون حولنا... كانت لحظات رهيبة، اختلطت فيها الدموع وخرج المجرمون". (ص157-158).  

إن أحداث صيف 1990 ستبقى حية في أذهان كل من عايشها داخل الكويت وخارجها، وكلنا نذكر دول العالم التي عارضت وقوى العالم الكبرى التي وقفت ضد العدوان، والدول العربية والخليجية التي آوت الكويتيين وساهمت في تحرير البلاد، ولكن على الشعب الكويتي أن يكون أعظم المستفيدين من ذكراها وعبرها، ولكن ما أصعب أن يتحقق هذا!

back to top