لا يمكن أن تكون مجرد "مصادفة" أن تخترق طائرة روسية المجال الجوي التركي في الوقت الذي بدأت فيه "جنيف3" تتهيأ للانعقاد بعد وصول طلائع ممثلي نظام بشار الأسد والمعارضة السورية، ثم إنه لا يمكن تصديق الروس عندما سارعوا إلى نفي أنهم ارتكبوا هذا "العدوان الآثم"، والمعروف أنَّ هذا ما كانوا فعلوه بعد حادثة مماثلة سابقة عندما أسقطت الصواريخ التركية طائرة "سوخوي" اخترقت مجال تركيا الجوي مدة "17" ثانية، وكان أن تردت العلاقات بين هذين البلدين المتجاورين أكثر كثيراً مما كانت متردية في الفترة السابقة.

Ad

فما الذي أرادته روسيا يا ترى بهذا "التحرش" المتكرر المقصود وفي هذا الوقت بالذات؟ حيث المفترض أن يكون هناك امتناع عن أيِّ تصعيد في هذه المنطقة الملتهبة لإعطاء فرصة، ولو ضئيلة ومحدودة لـ"جنيف3"، لإحراز أي تقدم يمكن البناء عليه لإنهاء الأزمة السورية التي غدت بمنزلة تهديد خطير للشرق الأوسط كله بدوله البعيدة والقريبة؟!

 أولاً: لا يمكن استنتاج إلا أنَّ الروس قد لجأوا إلى هذا الاستفزاز الصارخ لإفهام المعارضة السورية، التي كان وفدها على وشك الوصول إلى جنيف، أنَّ حليفها الرئيسي، الذي هو تركيا، هو مجرد نمرٍ من ورق، وأن عليها ألا تراهن على هذا الحليف وتتصلب أكثر من اللزوم ولا تذعن للواقع، وتأخذ بعين الاعتبار موازين القوى المستجدة على الأرض بعد التدخل العسكري الروسي "الفاعل" في سورية!

 ثانياً: إنَّ هذه القيادة الروسية، التي لم ترث عن الاتحاد السوفياتي إلا دهاء جهاز الـ"كي. جي. بي"، المخابرات السوفياتية، وألاعيبه ومناوراته، أرادت أن تُفْهم المعارضين السوريين ومؤيديهم العرب أن عليهم أن يدركوا أنَّه تم شطب الرقم الأميركي من معادلة الأزمة السورية، وأنَّ جون كيري قد تحول إلى مجرد متلقٍّ لما يقوله ويمليه عليه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.

 أمَّا ثالثاً: فهو أن الروس أرادوا اختبار رد فعل حلف شمالي الأطلسي الذي كان رد فعله في المرة السابقة، عندما ردَّت روسيا على إسقاط طائرتها بسلسلة الغارات التدميرية على الحدود السورية – التركية، باهتاً، وإلى حدّ أنه كاد يتبنَّى موقف موسكو، وذلك مع أن تركيا عضوٌ مؤسسٌّ في هذا الحلف، وأنها كانت تشكل جبهته الأمامية ضد الاتحاد السوفياتي في فترة صراع المعسكرات والحرب الباردة.

إن هذا هو ما أراده الروس، الذين لولا تدخلهم العسكري في سورية، لما استطالت هذه الأزمة المتفاقمة حتى الآن، ولكان بشار الأسد قد حزم حقائبه ورحل، ويقيناً فإنه إذا بقي حلف الأطلسي يتصرف تجاه تطاول روسيا المتصاعد بكل هذه "الميوعة" المستمَّدة من ميوعة الموقف الأميركي فمن غير مستبعد أن يصل تمادي الرئيس فلاديمير بوتين إلى حدِّ افتعال مواجهة عسكرية معلنة ومكشوفة مع تركيا، التي رغم قوتها فإنها بدون حلفائها الغربيين لا تستطيع الدخول في اختبار قوة مع دولة، رغم كل ما أصابها من وهنٍ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لاتزال إن لم تكن دولة عظمى، فدولة كبرى إمكانياتها هائلة.