ما أسهل أن تبكي... لكن بالفعل ما أصعب أن تضحك... ومثلما أكد المضحكون أنفسهم، هناك ضحك من القلب والعقل، يترجمه الفم، في حين أن هناك ضحكا لا يتجاوز الأسنان داخل الفم. من المؤكد أن الضحك لعب دورا مهما على امتداد عمر السينما المصرية، خاصة أنه أجدى وسيلة لأن يتقبل الجمهور واقعه الصعب، في الأغلب عن عمد، عبر اللعب على أحلام البسطاء، ليخرج كل منهم ساخرا من نفسه ومن واقعه البائس، ضاحكا عليه، راضيا بحظه من الدنيا، حتى لو كان أقل مما يعيش فيه، وأحيانا بغير عمد، حيث تكون هناك أهداف أخرى، لا تقل أهمية، يأتي على رأسها الجزء الذاتي بكل كوميديان، وهدفه الأهم الوصول عبر أقصر الطرق إلى قلوب وعقول الجماهير، فيحرص كل منهم على أن يستعرض قدراته الخاصة في الضحك، كحرصه على أن يعكس سمات عصره بما فيها الكوميديا، واجتهاده عبر أدواته وملكاته الخاصة، التي اختلفت من عصر لآخر، ومن فنان لآخر، التي تنوعت بين خفة الظل وطبيعة الشكل، وبين الحركات والسكنات، والسخرية من الآخرين، بل يصل الأمر في بعض الأحيان إلى أن يسخر الكوميديان من نفسه، إضافة إلى استخدام بعضهم طبقة صوته المميزة لإضفاء نوع من الخصوصية على شخصيته الكوميدية، دون الاختلاف على حجم موهبته، غير أن المدهش في حياة أغلب هؤلاء المضحكين، أن نجد خلف هذا الوجه الضاحك دوما من أجل إسعاد الآخرين، نفسا تتألم، بل والأكثر دهشة أن القدر كتب لبعضهم نهاية مأساوية بالفعل، لا تتناسب بحال مع كم السعادة والبهجة اللتين كانوا سببا فيهما للآخرين، فحق عليهم لقب "الضاحكون الباكون".

Ad

من بين هؤلاء الذين يطلق عليهم "الضاحكون الباكون" يبرز ابن مدينة المنصورة الفنان أمين الهنيدي، صاحب الخلطة السحرية بين خفة الظل والموهبة والشخصية الكوميدية الخاصة، وصاحب الصوت المميز، الذي يستطيع الجمهور أن يميزه من بين عشرات، بل مئات الأصوات الفنية المميزة، والذي تميز به، ليس بعد أن أصبح فنانا له خصوصية، بل منذ طفولته، وقبل أن يكمل عامه الخامس.

طفولة غير تقليدية

فلم يكن الطفل أمين عبدالحميد محمد الهنيدي، المولود في 1 أكتوبر 1925، بمدينة المنصورة، عاصمة محافظة الدقهلية، قد أتم عامه الخامس، حتى نال شهرة واسعة بين أقرانه في الحي الذي يعيش فيه، لفصاحة لسانه، وشقاوته الزائدة عن الحد، لكن لأنها ممزوجة بخفة ظل غير عادية، راح الجميع، الكبير قبل الصغير، يتقبلها برحابة وحب شديدين، لدرجة أنه إذا تصادف وضبطه أحدهم يجلس في مكان ما هادئا، تعجب من هذا الهدوء، وأكد أنه حتما الهدوء الذي يسبق العاصفة، وفي كثير من الأحيان يسألونه عن سر هذا الهدوء، ويطالبونه بالعودة إلى ما عهدوه منه.

رغم كل هذه الشقاوة وما يطلق عليه البعض "العفرتة" لم يكن أمين يمارس أيا منها داخل جدران منزله، ليس حفاظا عليه، بل خشية ورهبة من والده عبدالحميد أمين الهنيدي، الموظف بمصلحة السجون، فرغم أنه موظف مدني، فإنه اكتسب الكثير من العادات والتقاليد الشرطية، من دقة والتزام وضبط وربط وحزم، بحكم اقترابه من الحياة العسكرية داخل أسوار مصلحة السجون، لذا كان أمين ما إن يستشعر قرب عودته من عمله، حتى يسارع بترك اللعب في الشارع، ويتجه إلى بيته، يبدل ملابسه، ويغسل يديه وقدميه، ويجلس في غرفته، في انتظار أن ينادي عليه والده، عندما يحضر، لتناول طعام الغداء مع بقية أفراد الأسرة، وقتها يدخل أمين إلى حجرة الطعام، يقبل يد والده، قبل أن يسمح له بالجلوس لتناول الطعام، وسط نظرات دهشة مستترة، وضحكة مكتومة من الأم، لهذه الصورة التي لا تظهر إلا في وجود الأب فقط.

تلك الصورة التي حرص ابن الخامسة على أن يظهر بها أمام والده، يقابلها ثقة كبيرة من الأب، في الابن الهادئ الوديع الذي أحسن تربيته، ما جعله لا يصدق أي كلام يمكن أن يقال له عن شقاوة أمين و"عفرتته" أمام الآخرين، حتى جاءت الشكوى من مصدر كان من الصعب على عبدالحميد ألا يصدقه، عندما شكا له الشيخ "حسن الناجي" شيخ الكتّاب من شقاوة أمين، وما يفعله في الكتاب بين أقرانه، سواء في وجوده، أو أثناء غيابه.

كان الأهالي قديما في مصر يدفعون بأبنائهم عندما يبلغون سن الرابعة، إلى ما يسمى

بـ "الكتّاب" لحفظ القرآن الكريم، إضافة إلى ميزة أخرى مهمة، وهي أن تستقيم ألسنتهم في التعامل مع اللغة العربية، حيث تخرج منه عظماء الفقهاء وحفظة القرآن الكريم، حتى أن محمد علي باشا، مؤسس مصر الحديثة، استعان بخريجي الكتاتيب ليكونوا نواة المعاهد الأزهرية في مصر، وبدأ بهم نهضة تعليمية هائلة.

يبدأ الذهاب إلى الكتّاب مع طلوع الشمس وحتى صلاة العصر، وكان الطفل يحفظ القرآن الكريم في فترة وجيزة جدا، نظرا لتفرغه الكامل، ويعرف معلمو الكتاتيب باسم "المؤدبين" نسبة إلى تأديب التلاميذ، أو المشايخ، وينادي الطفل شيخ الكتاب بلقب "سيدنا"، وتدفع أسرته للشيخ مقابل تحفيظه، مبلغا ضئيلا من المال، وأحيانا يدفعون له ما تيسر لديهم من محاصيل زراعية من قمح أو شعير، أو حتى بعض الخضراوات، أو بعض الطيور.  

في الكتاب يبدأ الطفل تعليمه من خلال لوح خشبي صغير في حجم حقيبة اليد، التي يمسكها كل طفل، وتكون مصنوعة غالبا من نفس نوع القماش الذي صنع منه جلبابه، ويقوم المحفظ أو مساعد الشيخ وهو من يطلق عليه "العريف"، الذي غالبا ما يكون تلميذا قديما أتم حفظ القرآن وأتقن القراءة والكتابة، بكتابة بعض الحروف الهجائية للطفل على اللوح، ثم يقوم الطفل بكتابتها لحفظها.

بدأ ظهور الكتاتيب في الدولة الإسلامية منذ العصر الأموي، وهو ما يقابله في الحضارة المصرية القديمة ما يعرف بـ"مدرسة المعبد"، وفي العصر المسيحي استمرت الكتاتيب أيضا لتعليم أجزاء من الكتاب المقدس والمزامير، وقد عرفت الحضارة العربية الإسلامية مباني مستقلة ملحقة بالمساجد أو منفصلة أو في بيوت المحفظين أو في ساحة صغيرة أمام منازلهم.

ورغم أن الشيخ حسن الناجي، شيخ كتاب قرية "نقيطة" التي تقع في مدخل مدينة المنصورة، كفيف البصر، فإنه يستطيع أن يميز صوت أمين من بين جميع أطفال الكتاب على كثرتهم، ما جعله يضبطه أكثر من مرة بأذنه، وهو يقلده بشكل ساخر بين أطفال الكتاب، خلال فترة الراحة، أو أثناء تناوله طعامه، فيضج الأطفال بالضحك، وعندما يتوقف، تتعالى أصوات الأطفال مطالبين أمين بأن يستمر، ويعيد تقليده مرة أخرى، والأطفال مستلقون على ظهورهم من الضحك، رغم استخدام الشيخ حسن التهديد والوعيد، واللجوء إلى الضرب بين الحين والآخر، حتى ضاق ذرعا بأمين تحديدا، باعتباره من يقوم بالسخرية منه عبر تقليده، والمحرض الأول على الفوضى بين أطفال الكتاب:

= أنت بتقول إيه ياعم الشيخ حسن... أمين ابني؟!

- وهل هناك غيره.. نعم أمين ابنك يا عبدالحميد أفندي... أنا لا أخطئ صوته من بين كل أطفال البلدة.

= أيوه يعني بيعمل إيه.. مش حافظ القرآن ولا بيتشاقى مع بقية الولاد؟

- لا يا سيدي... المصيبة أنه يحفظ ما أتلوه عليهم بمهارة من دون خطأ في أحكام التلاوة، وشقاوته في الكتاب أحكمها بالعصا... لكنه في وقت الراحة يحول الكتاب إلى مسخرة.

= مسخرة.. يعني إيه مسخرة؟

- يسخر مني يا عبدالحميد أفندي... يسخر مني... يقلدني في صوتي وحركاتي وسكناتي... ابنك "فهلاو" يا عبدالحميد أفندي، ولابد أن تحسن أدبه.

لم يصدق عبدالحميد ما قاله له الشيخ حسن، وراح يدافع عن أمين وأدبه وأخلاقه، وحسن تربيته، بل وخجله الذي يلازمه حتى في بيته، فلم يجد الشيخ حسن بدا لإقناع عبدالحميد، سوى أن يطلب منه أن يأتي إليه في اليوم التالي، خلال فترة الراحة بعد صلاة الظهر، على أن يأتي من الباب الخلفي من الدار، وينتظر معه في الغرفة الملاصقة للساحة الصغيرة التي يجلس فيها الأطفال يحفظون القرآن، ليستمع بنفسه إلى "وصلة السخرية" التي يقوم بها أمين، عندما يستأذن الشيخ حسن لصلاة الظهر، والتي تعقبها استراحة قصيرة، يستأنف بعدها تحفيظ الأطفال ما تيسر من القرآن الكريم.

فخ التشخيص

في الموعد المحدد، حضر عبدالحميد والد أمين، استقبله الشيخ حسن، وأجلسه إلى جواره، ومرت الدقائق بطيئة، وعبدالحميد ينتظر "المسخرة" ـ على حد وصف الشيخ حسن ـ التي سيقوم بها نجله، لكنه لم يسمع له صوتا، حتى بدت علامات السرور والارتياح على وجهه، وراح يستعد بما يمكن أن يعنف به الشيخ حسن، بسبب هذه الاتهامات الباطلة، بينما بدأ الشيخ حسن نفسه يستشعر الحرج، وبمرور الوقت تمنى لو أن الأرض انشقت وابتلعته، أو أن يخرج إلى حيث يجلس أمين ويرجوه أن يقلده ويسخر منه حتى يسمعه والده، الذي هب واقفا استعدادا للوم وعتاب الشيخ حسن قبل أن يغادر المكان، غير أنه وقبل أن يفتح فاه، انطلق فجأة صريخ الأطفال وآهاتهم وضحكاتهم، وهم يهتفون باسم أمين، فانفرجت أسارير الشيخ حسن، في حين جرى عبدالحميد إلى الباب المؤدي إلى الساحة التي يجلس فيها الأطفال، وراح ينظر من فتحة ضيقة في الباب، ليجد نجله أمين بجلبابه المخطط، وفوق رأسه "طاقية" من نفس قماش الجلباب، وقد اتخذ مكان الشيخ حسن في مقدمة المجلس، ممسكا في يديه عصا صغيرة تشبه عصا الشيخ، وقد أغمض عينيه ليبدو مثل شيخه تماما، ثم انطلق يقلده:

* سكوت... مش عايز أسمع صوت أحد منكم يا جحش منك له... أنت يا واد يا عبدالراضي.. أنت مش قاعد ليه مكانك.. أنا شايفك؟!

= شايفني إزاي يا سيدنا؟

* قصدي سامعك... وأقدر أجيبك من مكانك!

= لا يا سيدنا أنا مش عبدالراضي... أنا أمين الفهلاو بن عبدالحميد أفندي.

* أنت بتخوفني يا فهلاو بوالدك السيد عبدالحميد أفندي... علشان ما هوه موظف حكومة بتخوفني به.

= أيوا يا سيدنا يعني لو علقتني تاني في الفلكة أبويا هايوديك "التُمن" (مركز الشرطة).

* بقى عايز توديني التمن يا سي فهلاو... طب امسكه يا واد عبدالراضي وشعلقه في الفلكة.

= لا يا سيدنا... أنا عبدالراضي... أنا عبدالراضي مش أمين الفهلاو.

- هاهاهاهاهاهاهاهاهاها... تاني يا أمين.  

ـ تاني يا أمين.

سيطرت مشاعر متناقضة على عبدالحميد، وجد نفسه لا يعرف هل هو سعيد لجرأة نجله وتمكنه بهذا الشكل من تقليد الشيخ حسن الناجي، وبهذه الطريقة الضاحكة، وهذا القبول الذي يلقاه من كل زملائه، أم يغضب لأنه خدع في نجله، وأنه لم يكن يعرف أنه على هذه الصورة وأنه لم يحسن أدبه؟

لم يستمر الصراع داخل عبدالحميد طويلا، وخلال لحظات حسم، فتح الباب المؤدي إلى ساحة التلاميذ، الذين ما إن شاهدوه حتى ساد الصمت بينهم، في حين كان أمين لايزال يقف مكانه وقد أغمض عينيه، ممسكا بالعصا يلوح بها في الهواء يمينا ويسارا، وعندما لاحظ الصمت تقدم تجاه زملائه وهو يلوح بالعصا، وفجأة اصطدم بجسد أمامه، ففتح عينيه ليجد والده أمامه متجهما مكفهر الوجه، فصعق أمين، وقبل أن يأتي بأي رد فعل أو يتحرك من أمامه، تناول منه والده العصا بسرعة وانهال عليه ضربا.

شعر عبدالحميد بالندم لما قام به تجاه طفله الصغير، فقد حاول جاهدا أن يكتم ضحكته، ما يعني أن ابنه يتمتع بخفة ظل وحضور كبيرين بين أقرانه، وليس هناك من بين الأطفال من يمكن أن يجاريه في خفة دمه، لكن هذا لا يمنع من أن يحسن تأديبه حتى لا يعاود القيام بما قام به تجاه شيخه، ورغم أن "العلقة الساخنة" جعلت أمين يتوب عن فعلته هذه مع الشيخ حسن، ويكون مثال الأدب والالتزام في الكتاب، لدرجة أنه بعد أشهر قليلة جعل منه "عريف" الكتاب، يساعده في تحفيظ الأطفال القرآن الكريم، إلا أنه لم يتخل عن موهبته المبكرة في التقليد، فما إن يعود من الكتاب، حتى يتفق مع أقرانه وهو في طريق العودة على التجمع بعد صلاة العصر في الساحة الكبيرة التي يمارسون فيها لعب كرة القدم، التي كان بارعا فيها إلى حد كبير، غير أنه قبل أن تبدأ مباراة كرة القدم، يطالبه الأطفال بالاستماع إلى وصلة كوميدية يقلد فيها "الشيخ حسن" ويفترش الأطفال كأنهم في الكتاب، بينما يجلس هو على قفص من جريد النخل، باعتباره الشيخ حسن، ويبدأ في تلاوة ما تيسر له من القرآن الكريم أولا، ثم اصطياد الأطفال واحدا تلو الآخر وتعنيفهم، وأحيانا يتقمص الدور ويعيش الشخصية للنهاية، ويطلب من الأطفال تعليق أحدهم في "الفلكة" ويتظاهر الأطفال بأنهم يعلقون زميلهم ويبدأ في ضربه على قدميه، حتى يضج الطفل ويناديه باسمه:

= كفاية يا أمين حرام عليك... أنت ما صدقت... كفاية كفاية!

لم يستمر وجود أمين طويلا في "الكتّاب"، حيث قام والده بالتقديم له في مدرسة "الرشاد" التي أنشأها محمد بك فتحي، أحد وجهاء وأثرياء المنصورة، وهي واحدة من أشهر مدارس المدينة، والتي تقع في شارع البحر، بالتقاطع مع شارع "محمد فتحي" الذي سمي باسمه.

كشكش في المنصورة

بالتحاق أمين بمدرسة الرشاد وانتظامه فيها، نسي الكتّاب والشيخ حسن الناجي، ولم يعد يقلده خلال جلساته مع زملائه في المدرسة، غير أنه لم ينس التقليد أو "التشخيص"، فلم يستطع أن يتخلى عن هذه الموهبة، بل شعر بها تزداد بداخله، لا يترك مدرسا أو مدير مدرسة، أو حتى ضيفا عابرا، إلا والتقط تفاصيل شخصيته، وكان هو الضحية التي يقوم بتقليدها في اللقاء اليومي مع زملائه، حتى كان ذلك اليوم في منتصف أغسطس 1937، عندما زارت فرقة نجيب الريحاني المسرحية، مدينة المنصورة، لتقديم عروضها لجمهور المنصورة، وبعض المدن والقرى المحيطة.

لم تكن المرة الأولى التي تذهب فيها فرقة مسرحية إلى المنصورة، بل سبقها العديد من الفرق، غير أن هذه المرة كان جمهور المنصورة في شوق جارف لمشاهدة هذه الفرقة تحديدا، عندما علموا أن بطلها هو نجيب الريحاني، أو "كشكش بك عمدة كفر البلاص" الذي ملأت أخبار رواياته الصحف، وتحدثت عنه الإذاعة، فضلا عن "العربات الكارو" التي راحت تطوف شوارع المنصورة لتعلن عن قدوم "كشكش بك" وفرقته، والذي سيقدم واحدة من أقوى وأمتع رواياته الكوميدية.

البقية الحلقة المقبلة ...

نجيب الريحاني يعرض «الجنيه المصري» بالمنصورة

كان الريحاني قد اقتبس وصديقه وشريك رحلته الكاتب بديع خيري، إحدى الروايات عن "الفرنسية" بعنوان "توباز" وأطلقا عليها اسم "الجنيه المصري" وافتتحا بها الموسم الصيفي على تياترو "الكورسال" بشارع عماد الدين، أكبر وأرحب تياترو في مصر، غير أن المسرحية رغم أهميتها، وخفة ظلها، لم تلق نجاحا يذكر في هذا الموسم، فقرر الريحاني أن يذهب بها إلى المنصورة، عل جمهورها يعوضه ما قابله بها جمهور القاهرة.

كانت المرة الأولى التي يرى فيها أمين عبدالحميد الهنيدي، تلك العربات التي تطوف الشوارع لتعلن عن عمل مسرحي سيعرض بالمدينة، لفت نظره الاستعراض الذي يقوم به الرجل الذي يقف فوق العربة، يقدم حركات بهلوانية، بينما يقوم آخر بالتعليق معلنا عن المسرحية وأبطالها.

لم يفهم أمين، ابن الثانية عشرة من عمره، معنى أن تكون هناك رواية مسرحية، وأن يكون هناك مشخصاتية سيقدمون هذه الرواية على المسرح، وبينما هو يصاحب عربة الدعاية من شارع لآخر، دارت في رأسه عشرات الأسئلة لم يجد لها إجابة، ربما كانت أهمها: ماذا تعني رواية مسرحية؟ ومن هؤلاء الذين سيقومون بالتشخيص فيها؟ لماذا يستقبل الناس الخبر بكل هذا السرور والفرح؟ بل ولماذا يصفقون ويهللون لهم وهم يطوفون شوارع المدينة بهذا الحماس؟

ما إن رأى أمين عربة الدعاية لفرقة الريحاني، وإعلانها تقديم رواية "الجنيه المصري" في اليوم التالي، حتى قرر أن يذهب لمشاهدة ما ستقدمه هذه الفرقة التي يعلنون عن قدومها إلى المنصورة، وكيف سيكون شكل الرواية التي يتحدثون عنها؟ لكن كيف السبيل إلى ذلك؟

سأل أمين أحد الذين يمشون خلف "عربة الدعاية"، وكانت صدمته عندما علم منه أن العرض ليس نهاريا، بل سيبدأ في السابعة والنصف من مساء اليوم التالي، وهو يعرف جيدا أنه غير مسموح لأي من أفراد العائلة، بالخروج من البيت بعد السابعة مساء، باستثناء ليلتي الثلاثاء والخميس، حيث تخرج الأسرة في ليلة الثلاثاء للتنزه، وقضاء بعض الوقت، سواء في "نادي الموسيقى"، ذلك النادي الذي يطل على "بحر النيل"، كما يطلق عليه أهالي المنصورة، حيث يشهد تجمع الموسيقيين من كل ربوع مصر، يوم الثلاثاء من كل أسبوع، ليقيموا سهرة موسيقية، تقدم فيها كل أنواع الموسيقى بداية من البشارف، مرورا بالسماعي والدور، وصولا إلى الطقطوقة، حيث يسهر أهالي المنصورة حتى قرب منتصف الليل، يستمعون للموسيقى والغناء، على أن تكون السهرة الثانية ليلة الخميس من كل أسبوع في حديقة "توريل".