ما حكمة الحكمة؟!
ما نفع الحكمة؟! ما الفائدة التي نجنيها منها؟! تكاد تكون الحكمة سخرية الحياة الكبرى التي تهديها لنا غالباً في نهاية المطاف، كمثل الذي يُبّشر بأنه شُفي من العقم بعد أن بُترت أعضاؤه التناسلية، فالحكمة كذلك لا تأتينا إلاّ حين لا يمكننا الاستفادة منها، ولا تكشف عن وجهها إلاّ بعد أن نرتكب جميع حماقاتنا، ما صغر منها وما كبُر، وبعد أن ندفع ثمنها من أعمارنا وسكينة أنفسنا وصفائها، وبعد أن نخسر من الناس الذين ما كان يجب أن نخسرهم، ومن الفرص التي ما كان يجب أن نضيّعها، تأتي الحكمة دائماً متأخرة وبعد فوات الأوان، وكأنما هي ليست مسك تجاربنا التي مررنا بها، بل خاتمة العقاب لأخطائنا التي ارتكبناها!ما يشعل لظى النفس أكثر، أنها تكون في متناول بصيرتنا في عنفوان صبانا في أحيان كثيرة، وعلى مرمى حجر من عقولنا إلا أننا لا نأبه ولا نكترث لتلميحاتها عندما تغمز لنا بإحدى عينيها، وحتى عندما يدفعنا الفضول- ولا شيء أكثر من الفضول- للاقتراب منها، تتمنع وتختبر رغبتنا في الحصول عليها، هي ليست سهلة المنال رغم أنها ليست مغرية حدّ الإصرار للحصول عليها، مما يجعل الصدود عنها يسيراً، وعدم الالتفات إلى ما يصلنا من غنج همسها هيّناً لا يشق على النفس، ولا يوجب إعادة النظر في قرار هجرها.
في أعمارنا المبكرة لا نكون على يقين تام بأن بين البعد عن الحكمة والاقتراب من أخطائنا هذه العلاقة الحدّية، نظن في كثير من الأحيان أن بإمكاننا فعل الصواب دون مدّ يد المساعدة منها، وأن باستطاعتنا الوصول إلى درب الرشد دون أن ترشدنا إليه، وبدون البحث عن لوحاتها المتوارية قليلاً خلف أشجار الدروب التي نعبرها مسرعين باتجاه ما نحسبها أمنياتنا في الحياة وعناوين أفراحنا الكبرى، تكون الحكمة دائماً بين أيدينا، ونراها رأي العين، طيفها يكون ملء البصر، وصوتها ملء السمع، نراها في الخطوط التي حُفرت في وجوه الطاعنين في السّن، ونسمعها في الأمثال الطاعنة في الخبرة، ونقرأها في الكتب الطاعنة في المشيب، ولكننا لا نحفل، في شبابنا لا تبدي الحكمة حرصاً زائداً على انتشالنا من غفلتنا!بعضنا يمضي طريقة إلى الهاوية، وبعضنا يكتشف متاهة الطريق بعد أن استنزف أنفاسه في المضي فيه، وبعد أن أفنى الكثير من جهده، وأضاع الكثير من طاقته في اقتلاع شوكه من قدميه والبحث عن ضماد لجراحه، حينها فقط ترتمي الحكمة بكل دلال في أحضانه طائعة راغبة بعد أن كانت تتمنع في سنوات سابقة مضت، وتكشف عن مفاتنها له، فيتمنى لو ابتدأ مشوار حياته من جديد ملازماً لها لينعم،ولكن ما الحكمة في أن تأتينا الحكمة متأخرة؟! لا بد أن في ذلك سراً حكيماً طالما أن اسمها "الحكمة"، لا أدري ولكن أظن أن الحياة تلقنّا درساً في أن العمر السعيد لن يكون في العمر المديد، بل في العمر الذي يسكنه العديد!