ماركو فالدو

نشر في 29-02-2016
آخر تحديث 29-02-2016 | 00:00
 فوزية شويش السالم أحب كتابات الكاتب الإيطالي "إيتالو كالفينو" المميزة بشكل وروح متفردة لا تشبه أياً من الكتاب الغربيين، حتى من لهم ذات الاهتمامات سواء ما يتعلق بالإنسان أو بالطبيعة، فهو يختلف عنهم اختلافا جذريا في طريقة تناوله لمواضيع الكتابة وطبيعتها، فتعلقه بالطبيعة شيء غير عادي والتصاقه بها هو التصاق حميم كأنها منه وهو منها، بينهما حبل سري لم يُقطع ولم يُفصم، التحام شفيف يسمح بالحركة وبالمرور والعبور والتفرد، لكنه لا يسمح بالبعد والانفصال، لأن هذه العلاقة هي علاقة المخلوق بطينه الذي جاء منه والذي سيعود إليه، لذا هو مدرك تماما لأدق تفاصيلها ولكل ذرة تغير فيها، لا شيء بإمكانه الإفلات من ملاحظته واقتناص وعيه له، فهو ابن الطبيعة بجدارة، مدرك لها ومحصٍ لأنفاسها وحارس لمنامها، هذا إلى جانب قدرته التأملية الفلسفية الجمالية التي ضاعفت قدراته ومنحت نصوصه أبعاداً زادت من قيمتها الأدبية والفنية، مما ميزها بروح خاصة لا يمكن مقارنتها مع غيره من الكتاب الكبار.

في رواية "ماركو فالدو" التي هي مجموعة مشاهد قصصية عن حياة العامل ماركو فالدو الإنسان البسيط المتعلق بحب الطبيعة المتمثلة بالغابات والعصافير والأنهار والجبال بكل عفوية وبراءة الإنسان الذي لم تخدش صفاءه أقنعة الحضارة الصناعية التي حوله، وبقي حاملاً بداخله سذاجة المخلوق النيئ المربوط بمشيمة أمه الطبيعة المنتمي إليها جذره.

روح ماركو فالدو هذا ليست إلا روح وقلب وعقل إيتالو كالفينو ذاته ألبسها في صورة عامل بسيط لا يريد من الدنيا إلا أن ينام تحت ضوء القمر ويطارد العصافير في موسم هجرتها ويسير مع النهر إلى مصبه، فكل التقاطاته وتأملاته هي ذات التقاطات وتأملات وتساؤلات الكاتب نفسه الذي لا تغيب عنه شاردة أو واردة من تفصيلات الطبيعة حوله والتي يغوص في مراقبتها وحصر حركاتها الدقيقة، وقد قرأت له من قبل مشاهد يرصد فيها موج البحر موجةً موجةً بلا ملل لوقت طويل أوصله إلى أن الموج يختلف ولا يتشابه، وكل موجة منه لها شكلها وإيقاعها الخاص بها، حتى وإن كانت تبدو متشابهة؟

وكذلك رصده للسلاحف وهجرة الطيور والزواحف وكلها نصوص كتبها عن مراقبته الدقيقة لها، لذا وجدته في شخصية ماركو فالدو الذي تقمصته روح إيتالو كالفينو الساخرة الظريفة التي لها نوع ما من البصمة السحرية السرية يرشها وينفثها في روح القارئ لتشعره بمتعة مشاركة إنسانية مع شخوص روايته الغريبي الأطوار البسطاء جدا السُّذج، يميلون إلى الاكتفاء بأقل ما يمكن أن تمنحهم به الحياة، إنه يتلقط حياة هؤلاء الفقراء وطريقة عيشهم بمجتمع صناعي يمنحهم الأقل ما يمكن العيش به، وهذا ما كشفته قدرة إنسانية لكاتب تتفوق كتابته بحيث تريه ما لا يراه الآخرون، وهذا يتطلب حساسية ليست متوفرة عند الآخرين.

هذه المشاعر التي يشعر بها ماركو فالدو، التي تعكس حاله وحال عائلته والمدينة برمتها في مشاهد خرافية نابضة بالحياة لدرجة تكاد تشم رائحتها وإحساسها وتعيش نبضها، صور مذهلة تتولد من مخيلة تملك خيالا بلا حدود انسكب في مشاهد رائعة تحبس أنفاس القارئ مثل المشهد العظيم لعبور البقر للمدينة متجهاً لأعشاب المرتفعات حاملاً معه روائح الروث والريف والعشب والشمس والمطر في انحداره المندفع، وأيضاً مشهد النبتة المريضة التي عالجها حتى نمت نموا مذهلا وهو يدور بها على دراجته حتى أصبحت هذه النبتة التي تسير علي عجلتين، وأيضاً المشهد المؤلم حين يأخذ ماركو فالدو أسرته للنزهة في "السوبر ماركت" وهم لا يملكون أية نقود في جيوبهم، وكانت تسليتهم مراقبة الآخرين في تبضعهم، ومن ثمة تقليدهم لهم في جر عربات التسوق وملئها بكل أنواع البضائع ومن ثمة إفراغها وهروبهم.

كل مشاهد هذه الرواية القصصية أتى من عين تحول ما تراه من أحداث وأفعال إلى مشاهد سريالية محملة بفانتازيا غريبة "تعور" قلب القارئ وتجرح وعي إنسانيته بهذا الفقر اللإنساني، حيث استطاع الكاتب بحسه العميق أن يتغلغل في مشاعر العامل الفقير وفي بساطة رؤيته الساخرة لكل ما حوله من حياة ومعنى.

رواية عظيمة رغم قصرها، إلا أنها تمنح القارئ لذة قراءة أسطورية لمن يعشقون الطبيعة ويدركون الإحساس بها، ولمن خيمة إنسانيتهم تتسع لكل هؤلاء المعذبين في الأرض.

back to top