عندما كان غاري كاسباروف بطل العالم في الشطرنج، لُقب بـ{وحش باكو} في إشارة إلى مكان ولادته في جمهورية أذربيجان السوفياتية السابقة وإلى أسلوبه الشرس في اللعب. برع هذا اللاعب العدائي والمتكبر في أساليب الهجوم. وفي عام 2005، بعد عقدين في عالم الشطرنج، تقاعد لينضم إلى الحركة المؤيدة للديمقراطية في روسيا و{ليتصدى لمدّ أعمال القمع المتنامي القادم من الكرملين}، حسبما يوضح في كتابه Winter Is Coming (الشتاء قادم). في عمله هذا المناهض لفلاديمير بوتين، يلجأ كاسباروف إلى الهجوم مجدداً. يكتب: {من الواضح أن روسيا بقيادة بوتين تشكل أكبر التهديدات التي يواجهها العالم اليوم وأكثرها خطورة. يشكل بوتين قضية خاسرة، وستبقى روسيا نفسها قضية خاسرة حتى رحيله}. وبعدما أطلق بوتين حملة جوية في سورية، أخبر كاسباروف CNN.com أخيراً أن {بوتين يحتاج إلى غذاء منتظم من الصراعات المتفاقمة}. كذلك انتقد الغرب لأنه {شارك في لعبة الحكام المستبدين التكتيكية بامتياز وخسر}.
في كتابه الجديد Winter Is Coming، يقدم غاري كاسباروف عالماً مانوياً يشكل فيه الرئيس الروسي وتنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي خطراً يهدد العالم العصري، إلا أنه يشدد على أن بوتين الأكثر سوءاً لأنه يملك أسلحة نووية تدعمه.يشن بوتين وداعش كلاهما {حرباً ضد الحداثة}، حسبما كتب كاسباروف في صحيفة وول ستريت جورنال في يناير. يتوق بوتين إلى سلطة القياصرة المطلقة، في حين يشق داعش طريقه نحو خلافة تعود إلى القرون الوسطى. ويؤكد كاسباروف أنهما كليهما يرفضان القيم الغربية، علماً أن {هذا يشكل قاسماً مشتركاً يربط اعتداءات بوتين في أوكرانيا والعقيدة الإسلامية القاتلة التي تغذي المجاهدين أمثال قتلة باريس}.بينما يحاول القارئ فهم هذه النسخة من بوتين الإرهابي الدولي، ينتقل كاسباروف أيضاً إلى تشبيه مستهلك عن بوتين رئيس العصابات. فيعتبر أن أفضل طريقة لفهم الرئيس الروسي مطالعة ثلاثية ماريو بوتزو Godfather (العراب)، مع أداء بوتين دور دون فيتو كورليوني. ولكن بدل اعتماد رئيس العصابات هذا على الميسر وتهريب الكحول، تقوم دولة هذا الحاكم المستبد الروسي النفطية على النفط، المال، والسلطة. تناول كثيرون هذه المقارنة من قبل، وحللت كتب أخرى حول بوتين بالتفصيل نظام السيطرة المركزية الذي يتبعه أو {نظام السلطة العمودي}، فضلاً عن العلاقات المشينة بين مسؤولي الحكومة والشركات التابعة للدولة.يعرض كاسباروف أبرز المراحل خلال 15 سنة أمضاها بوتين في السلطة (حتى اليوم)، إلا أن هذا الكتاب لا يحمل معلومات جديدة لمعظم القراء. لكن لا يُعتبر ذلك مهماً من نواحٍ عدة، بما أن كاسباروف يحاول إنجاز مهمة مختلفة: تقييم الذنب. ولا شك في أن الذنوب كثيرة، بدءاً مما أسماه {جرائم وجنح} سلفي بوتين، الرئيس السوفياتي ميخائيل غوربتشوف ورئيس روسيا الأول بوريس يلتسن.هل كان باستطاعة ناشطي روسيا الداعمين للديمقراطية، بمن فيهم كاسباروف، تفادي الانحدار السريع الذي أوصلنا إلى بوتين؟ كلا، وفق كاسباروف، ما كانوا يملكون أي فرصة. فقد تعرض مصلحو روسيا للافتراء، الاعتداء الجسدي، مضايقة الشرطة، وأحياناً القتل، كما في حالة بوريس نيمتسوف. لذلك، يشدد كاسباروف على أنهم مُنعوا باستمرار من بناء حركة تستطيع تحدي الكرملين. في سرده هذا الخالي من أي مناطق رمادية، ما من مجال للتعمق في تحليل السؤال البالغ الأهمية: لمَ أخفق ليبراليو روسيا في الاتحاد؟ على العكس، يذكر كاسباروف بشكل عابر صراعاتهم الداخلية، التي يصفها بـ}عقلية الحرب الأهلية خلال عهد يلتسن}.لكن كاسباروف يصب جام غضبه على الغرب، الولايات المتحدة، وخصوصاً أوباما، متهماً إياهم بالاستسلام بجبن لرغبات بوتين. يذكر: {رغم كل المحاولات لتصنيف هذه العملية كـ{محاولة تقرب}، من الصعب إخفاء رائحة التهدئة التي تفوح منها}.في حين تشن الطائرات الحربية الروسية عمليات قصف في سورية، وقف البيت الأبيض مكتوف اليدين، حسبما أخبر كاسباروف مجلة Newsweek في أكتوبر. وأضاف: {لا مصلحة للولايات المتحدة في مواجهة مناورة فلاديمير بوتين الأخيرة، بطريقة تردعه على الأقل}.مزيد من الاعتداءاتيؤكد كاسباروف في كتابه أن الرئيس الأميركي خصوصاً {بالغ دوماً في ثقته بالأفراد في روسيا، بدل أن يدعم الإصلاحات البنيوية والمؤسساتية التي كان يمكن أن تضمن استمرار الديمقراطية}. حتى إنه انتقد {مقاتلي الحرب الباردة}، مثل ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، وكوندوليزا رايس لأنهم استسلموا للحاكم الروسي. يتوق كاسباروف إلى وقائع الحرب الباردة، التي تشكل أساس ما يعتبره الطريقة {الصحيحة} للتعامل مع حكم مستبد: لا الدفاع عنها فحسب، بل نشرها {بعدائية}. بدلاً من ذلك، دلل الغرب روسيا، أجج كبرياءها، وعاملها كقوة عظمى كما كان الاتحاد السوفياتي، بدل الترويج للقيم الغربية والمطالبة بأن تلتزم موسكو بقيم حقوق الإنسان. نتيجة لذلك، يعتقد أن روسيا عادت إلى التوتاليتارية.يحذر كاسباروف: {لا يتوقف الحكام المستبدون إلا عندما نوقفهم. ولا شك في أن استرضاء بوتين في أوكرانيا سيعزز شهيته إلى مزيد من الاعتداءات. تشكل أوكرانيا معركة واحدة يود العالم الحر تجاهلها في حرب كبرى يرفض الإقرار بوجودها حتى}.في عالم كاسباروف، يؤدي الغرب دوراً بأبعاد خيالية دائمة الوجود. فيتجاهل دور انهيار الاقتصاد السوفياتي وأسعار النفط العالمية في تفكك الاتحاد السوفياتي، ويدّعي بأن {العالم الحر أسقط الاتحاد السوفياتي}، وأن لامبالاة الغرب وعدم جدواه سمحا لبوتين {بإنهاء التجربة الديمقراطية في روسيا}.يحمل هذا الكتاب رسالة واضحة: {سبق أن أخبرتكم بذلك}. يكتب كاسباروف: {حوّلني بوتين إلى نبي دقيق وروسي خائب الآمال}.جبن العالم الغربييحفل Winter Is Coming بعبارات {كان يفترض}، {كان يجب}، و{كان من الممكن}. مثلاً، يفترض كاسباروف، أن أجندة الترويج للحرية التي أطلقها جورج بوش الابن، لو كانت قائمة في التسعينيات، {لكان من الممكن أن تؤدي إلى نتائج مذهلة. ففي تلك الفترة، كان الأشرار لا يزالون غير منظمين}.ولكن هل كان بإمكان واشنطن أن توقف {الأشرار}؟ في مطلع التسعينيات، كانت الولايات المتحدة أكثر انشغالاً بنهوض روسيا من رماد الاتحاد السوفياتي من دون حرب أهلية أو كارثة نووية. لذلك لم تكترث بتأنيب يلتسن بسبب أعماله غير الديمقراطية، مثل سحقه ثورة بإعطاء الأمر للدبابات بإطلاق النار على القصر الرئاسي الروسي. ولكن ما من مكان في عالم كاسباروف للقرارات التي تُتخذ على أرض الواقع بالاستناد إلى خيارات صعبة. فعلى الغرب، على ما يبدو، أن يزمجر في وجه بوتين ليقف خائفاً. يذكر بكل جدية: {في عالم يكون فيه ماكين رئيساً، لا يجتاح بوتين أوكرانيا}.يعتبر كاسباروف نفسه بطلاً يجيد توقع ما سيحدث، خصوصاً ما سيقوم به بوتين تالياً وخطوات يخشى الغرب الإقدام عليها لوقفه. يتوقع في تعليقه في Newsweek: {كما في أوكرانيا، سيبقى بوتين في سورية إلى حين لا يعود هذا ملائماً له. لا يملك الرئيس الروسي أي أهداف إستراتيجية طويلة الأمد غير نشر الفوضى وإضعاف حلفاء العالم الحر، أينما تسنى له ذلك}. قد يكون هذا صحيحاً. لكن كاسباروف في كتابه يبدو مستاء من عدم استعداد الغرب للرد أكثر منه على عدائية بوتين. يكتب: {يخبرني الجميع أنني محق}. لكنه يشتكي من أن القليل من توصياته طبق: {يبدو أنني أقلل مرة أخرى من أهمية جبن العالم الغربي}. ولكن ما هذه التوصيات؟ يطلب كاسباروف أن ننسى مسألة {التعاطي} مع بوتين أو داعش. بدلاً من ذلك، تبدو وصفته أشبه بالعودة إلى المستقبل. يكتب: {كلا، يتطلب إنزال الهزيمة بهما التوحد، التصميم، والمبادئ التي أدت إلى الانتصار في الحرب الباردة}.يقترح كاسباروف تحالفاً جديداً في العالم مع {ماجنا كارتا عالمي}، أي إعلان للحقوق الرئيسة يوقعه الأعضاء كافة، يصون شرعة حقوق الإنسان، ويفرض تطبيقها. لكن كاسباروف يريد أيضاً تغيير النظام في روسيا. لذلك يحض: {توقفوا عن تدليل الأنظمة المارقة ورعاة الإرهاب}. فلا يمكن تبديل طبيعة بوتين أو استرضاؤه. إذاً، من الضروري احتواؤه والإطاحة به. نتيجة لذلك، يحث القادة الأوروبيين {على مواجهة الكرملين}، مع أنه يتوقع في الوقت عينه أن يستسلم الغرب مجدداً. يكتب كاسباروف: {يتضح في الوقت الراهن أن ديمقراطيات القرن الحادي والعشرين ليست مستعدة لصراع مماثل. وهنا ينشأ السؤال: هل تتمتع هذه الديمقراطيات بالقدرة أو الإرادة لتستعد؟}. إذاً، يحفل Winter Is Coming، الذي كتبه بالتعاون مع ميغ غرينغارد، بالعموميات، الدعوات العالية إلى العمل، والتذمر من خمول الغرب، ما يجعله أقرب إلى تعليق طويل في مدونة منه إلى كتاب. تعوز هذا الكتاب، مثلاً توضيحات عميقة لمسائل عدة، مشيرة إلى ما قد يفعله الشعب الروسي نفسه للترويج للتغيير. يدّعي كاسباروف بأن الطريقة الوحيدة لإنهاء حكم بوتين تبقى {أن يفهم الشعب الروسي ونخب بوتين ألا مستقبل لهم ما دام في السلطة}. لكنه يعتقد أن من مسؤولية الغرب إقناعهم بهذا الواقع.يشير كاسباروف إلى أن {بوتين لا يجيد رسم الإستراتيجيات}، واصفاً إياه بـ{لاعب ميسر عدائي يواجه معارضة ضعيفة من عالم غربي بات يتفادى الخطر إلى حد أنه صار يفضل الاستسلام على فضح خداع بوتين، مهما كانت أوراقه جيدة}. لكن الشعب الروسي يؤدي دوراً في هذه المسألة أيضاً. فيعمد بعضهم إلى طي ورقه والهرب من البلد، في حين يتابع آخرون اللعب، حتى لو كانت أوراقهم خاسرة. أما الغالبية العظمى، إن صدقنا استطلاعات الرأي الروسية، فتدعم قائدها.لكن الشطرنج لعبة إستراتيجيات أكثر تعقيداً. عندما كان كاسباروف بطلاً، كان يلعب ليربح. ولكن كناشط مدافع عن الديمقراطية، يواجه الخسارة. فهو يقيم راهناً في نيويورك، ما يشعره بالاستياء حقاً. يكتب: {رددت مراراً أن بوتين يمثل مشكلة على روسيا حلها، غير أنه سيصبح قريباً مشكلة إقليمية ومن ثم عالمية، إن تجاهل العالم طموحاته. من المؤلم أن يُقال له إنك محق في هذه المسألة}.
توابل
بطل الشطرنج غاري كاسباروف في Winter Is Coming: بوتين يشنّ حرباً ضد الحداثة
15-01-2016