بما أن الحكومة تنوي إقرار قانون جديد فإننا نكرر ما قلناه سابقاً، وهو أن وجود هيئة للنزاهة أو مكافحة الفساد يعتبر أمراً في غاية الأهمية ليس لأن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي وقعت عليها الحكومة تُلزمها بذلك، بل لأننا في أمسّ الحاجة إلى جهاز مستقل وفاعل يكافح الفساد المستشري في مفاصل الدولة وأجهزتها.

Ad

عندما صدر "مرسوم الضرورة" الخاص بإنشاء هيئة مكافحة الفساد كتبنا مقالاً في هذه الزاوية تحت عنوان "هيئة مكافحة الفساد بين الشكل والمضمون" (11 ديسمبر 2013) جاء فيه التالي:

"... لقد ولدت "الهيئة" ميتة، مع الأسف الشديد، فتبعيتها التنظيمية للحكومة تتعارض مع استقلاليتها المطلوبة، لهذا فلا غرابة البتة أنه قد مضى أكثر من عام على إنشائها ولم تعمل بشكل فعلي، ولم نرَ لها أي دور ملموس وجاد في عملية مكافحة الفساد الذي ازدادت شراسته في الفترة الأخيرة، وهو الأمر الذي يجعل السؤال حول مدى وجود حالة الضرورة في مرسوم إنشاء "الهيئة" سؤالاً مشروعاً!

ومن الناحية التنظيمية، فإن إنشاء جهاز مستقل لمكافحة الفساد وطريقة عمله لا يحتاج إلى إعادة اختراع العجلة، كما يقال، فهناك تجارب عالمية كثيرة توضح كيفية الحد من الفساد ومحاصرته من جهة ونوعية الأجهزة المستقلة اللازمة لذلك، وطريقة تشكيلها وارتباطها التنظيمي بأجهزة الدولة المختلفة من الجهة الأخرى.

أما من الناحية العملية، فإنه لا يمكن مكافحة الفساد بأشكاله وأنواعه كافة، والحد من آثاره المدمرة على المجتمع ما دامت المنظومة السياسية فاسدة، حيث إن الفساد السياسي المؤسسي هو أساس البلاء ومصدره، لهذا فإن تجارب البشرية تؤكد لنا أن أي جهود حقيقية وجادة لمكافحة الفساد يجب أن تُركّز أولاً على إصلاح المنظومة السياسية المسؤولة عن إدارة شؤون الدولة والمجتمع، لأن الإدارة الفاسدة لا ينتج عنها سوى الفساد".

والآن بعد أن أبطلت المحكمة الدستورية "مرسوم الضرورة" المتعلق بإنشاء هيئة مكافحة الفساد بسبب عدم توافر عنصر الضرورة، وحيث إن الحكومة تنوي إقرار قانون جديد، فإننا نكرر ما قلناه سابقاً، وهو أن وجود هيئة للنزاهة أو مكافحة الفساد يعتبر أمراً في غاية الأهمية ليس لأن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي وقعت عليها الحكومة تُلزمها بذلك، أو لمجرد التباهي أمام المنظمات الدولية، بل لأننا في أمسّ الحاجة إلى جهاز مستقل وفاعل يكافح الفساد المستشري في مفاصل الدولة وأجهزتها، والذي أصبح يعوق تقدمنا، ولكن بشرط أساسي وهو أن يكون الجهاز (الهيئة) مستقلاً مالياً وإدارياً عن الحكومة؛ كي يستطيع مكافحة الفساد السياسي الذي يعتبر أشرس أنواع الفساد وأكثرها كلفة على المستويات كافة، ولكي يكون قادراً أيضا من خلال صلاحياته القانونية على منع تعارض المصالح والكسب غير المشروع، وإلا "كأنك يا بو زيد ما غزيت" كما يقول المثل الشهير.

بعبارات أخرى، فإنه ليس هنالك حاجة إطلاقاً إلى وجود جهاز شكلي تابع للحكومة، كما هو التوجه الحالي، يضاف إلى أجهزتها الكثيرة التي تحتاج إلى إصلاح شامل وإعادة هيكلة جذرية، بل إن ذلك سيكلف الميزانية العامة للدولة أعباء مالية إضافية في الوقت الذي تكرر فيه الحكومة الحديث عن عجز مالي تعمل بدأب وأساليب ووسائل مختلفة على معالجته عن طريق سياسة اقتصادية نيوليبرالية متوحشة، تفتش في جيوب أصحاب الدخول المتوسطة والمنخفضة، وتنحاز اجتماعياً لمصالح الأثرياء.