منذ شهور طويلة والحكومة تعقد اجتماعات مُكثّفة ومُطوّلة، بعضها بمكافآت مالية من ميزانية الدولة، وجميعها من "وقت المجتمع" وعلى حساب معالجة المشاكل الحقيقية التي يواجهها، وذلك تحت شعار "ترشيد الإنفاق العام" كي تتمكن الحكومة، كما تقول دائماً، من "معالجة عجز الميزانية العامة". هذا مع العلم أن "كريستين لاغارد" مديرة صندوق النقد الدولي الذي تنفذ الحكومة "وصفته" الاقتصادية والمالية قد صرحت قبل نحو أسبوعين منافية لتصريحات الحكومة، حيث ذكرت أن وضع الكويت المالي قوي وهي لا تواجه عجزاً مالياً!
وبعد طول انتظار تمخضت سلسلة الاجتماعات الحكومية الماراثونية المكثّفة عن خطوط عريضة لقضايا سبق ذكر معظمها في "الخطة التنموية"، ولكن أُطلق عليها هذه المرة مُسمىّ "وثيقة الإصلاح الاقتصادي والمالي" التي تتجاهل الاختلالات الرئيسة في الاقتصاد الوطني والمالية العامة للدولة، ثم تُركّز في خطها العام وبشكل أساسي، كما هي عادة "روشتة" صندوق النقد الدولي، على سياسة جباية الأموال من أصحاب الدخول المتوسطة والمتدنية من خلال ما يسمونه "تحرير الأسعار"، أي رفع أسعار الكهرباء والماء والبنزين والخدمات الأساسية، فضلاً عن زيادة الرسوم مثلما حصل مؤخراً عندما رُفِعت رسوم خدمات الهيئة العامة للمعلومات المدنية من (150%- 250%)، وتخفيض الدعم الاجتماعي للسلع والخدمات الأساسية، وذلك لمصلحة كبار الأثرياء الذين سيحصلون في النهاية على الإيرادات الجديدة بأشكال متعددة وطرق مختلفة، وبالذات في ظل استشراء الفساد السياسي المؤسسي، وهدر الأموال العامة، والتنفيع السياسي، و"تفصيل" المناقصات المليارية على مجاميع تجارية بعينها (كشف الوزير والنائب السابق أحمد المليفي في برنامج تلفزيوني الأسبوع الماضي عن أن "ما نسبته (69%) من قيمة مناقصات عام 2014 كانت من نصيب أربع شركات فقط").لهذا فلا عجب أن تنفيذ "الوثيقة الحكومية" سيبدأ، أول ما سيبدأ، برفع أسعار الخدمات الأساسية الضرورية التي تمس حياة الناس مباشرة مثل الكهرباء والماء والبنزين، ناهيك عن الآثار التضخمية المترتبة على ذلك والتي ستؤدي تلقائياً، ولا سيما في ظل ضعف الرقابة وغياب شبكة الحماية الاجتماعية، إلى رفع أسعار باقي السلع والخدمات الضرورية والإيجارات السكنية، وهو الأمر الذي سينعكس مباشرة على المستوى العام لمعيشة معظم السكان، وسيكون له تبعات اجتماعية وسياسية.ومن الواضح أن محاولة تسويق "الوثيقة الاقتصادية" على المستوى الشعبي تطلبت ذكر بعض الجُمل الإنشائية المُرسلة والفضفاضة غير المربوطة بإطار زمني محدد، وبعض العبارات التي تعطي إيحاءً خادعاً بأن ترشيد الإنفاق العام سيشمل أيضاً كبار أصحاب رؤوس الأموال، مثل عبارة "ضريبة الأعمال" بالرغم من أنها تقتصر، فيما لو طُبقت بعد عامين، كما تنص "الوثيقة"، وليس خلال أشهر مثل الكهرباء والماء والبنزين، على نسبة ثابتة وهي (10%) من أرباح الشركات المُسجّلة في البورصة (تحسب بعد استبعاد الاستقطاعات الأخرى وهي 5% حالياً أي أنها ستكون 5% فقط)، وذلك مع العلم أن هناك شركات عائلية كثيرة غير مُسجلة في البورصة حالياً. بمعنى آخر، فإن ضريبة أعمال الشركات ستشمل من لديه أي ملكية حتى لو كانت أسهما قليلة في الشركات المدرجة في سوق الأوراق المالية، وستستثنى الشركات الأخرى خارجها، بالرغم من أن النظام الضريبي العادل هو نظام ضرائب تصاعدية ليس على الأرباح فقط، بل على الدخل أيضاً، ومن ضمنه الأموال المُحصّلة من الأملاك والأصول العقارية وغيرها. وعلى أي حال فإن الإصلاح الاقتصادي والمالي الحقيقي، كما ذكرنا من قبل، ليس قرارات فنية متسرعة تستهدف جباية الأموال، بل هو حزمة سياسات متكاملة ومترابطة تعالج الاختلالات الرئيسة في الاقتصاد الوطني والمالية العامة، وتأخذ في الاعتبار الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكل سياسة على حدة من أجل ضمان تحقيق العدالة الاجتماعية. أضف إلى ذلك أن الإصلاح الاقتصادي والمالي له متطلبات أساسية لا يمكن تحقيقه من دونها، وأولها، بل أكثرها أهمية على الإطلاق، هو الإصلاح السياسي والديمقراطي الحقيقي، فالإصلاحات الاقتصادية والفساد السياسي المؤسسي لا يجتمعان.
مقالات
إصلاح اقتصادي أم جباية أموال؟!
11-04-2016