يعزو الكثيرون تخلف مجتمعاتنا إلى سطوة أحداث وشخصيات تاريخية بائدة على تفكير نخبها وأبنائها، ولذلك ليس من المبالغة القول إن مجريات الحياة فيها تحكمها وتوجهها جثث في قبور سحيقة وأحكام من قرون بائدة، فتاريخنا، أو تواريخنا، توخياً للدقة، لا تعترف بالفناء والموت والاندثار، وتبدو كما لو كانت عالما قائما بذاته بوسعنا السفر إليه وقتما نشاء بدون آلة زمن، ففيها الينابيع الصافية والشخصيات المؤمثلة التي لم تلوثها وتعكرها أحداث لاحقة، ولكنها كذلك، متخمة بخلافات ومنازعات مسمومة وقاتلة.

Ad

هذه النظرة السقيمة للتاريخ والماضي مصحوبة بأوضاعنا البائسة، ترسخ التاريخ بوصفه قيمة رفيعة ترتقي إلى سوية النص المقدس، والمأزق القاتل في هكذا أوضاع، انفتاح البشر دوما على إمكانية خوض حرب ضروس باسم التاريخ وقداسته.

فأبناء المنطقة في اعتناقهم روايات متباينة لتواريخهم، وهذا أمر لا ضير فيه، وفي الحقيقة فإن تعدد التواريخ وتنوعها يعملان أحيانا كعنصر إثراء اجتماعي وصمام أمان إزاء هيمنة الجماعات، تتسم بسخونتها وسجاليتها وتفاصيلها الكثيرة التي أمست مكامن للشياطين، مما جعل الخلافات التاريخية في منطقتنا تتحول إلى حروب فكرية وجسدية إلى الدرجة التي يعتقد فيها طرف ما أن منظوره للتاريخ لا يكتسب مشروعيته إلا بإجهازه على باقي الروايات الأخرى، وكأن حياة تاريخ بعينه مرهونة بتصفية ذاكرة الآخر.

هنا يغدو التساؤل ملحا ومطلوبا، هل هناك مخرج من هذه المشاريع الكبرى للتصفية التاريخية؟ وهل التعامل مع التاريخ على نحو مغاير كفيل بإنقاذنا حضاريا؟ هكذا يتبدى الطريق لتحقيق سلام أهلي مرهون بابتداعنا طرائق جديدة في التعامل مع التاريخ، لا تقرّ بدءاً بقداسته، ولا تستسلم لإغواء الذاكرة الموحدة والمتجانسة، ولئن كانت تلك مهمة عظيمة تستحث في إنجازها مقادير كبيرة من الجرأة والنزاهة والمشقة، فإنها قبل ذاك تتطلب التساؤل بشجاعة عن التاريخ نفسه، ما تعريفه، فالمسمى نفسه غير واضح وملتبس في أذهاننا. إذ قد يشير التاريخ إلى الحوادث السابقة، وقد يومئ إلى كيفية تدوينها.

وبما أن الحوادث السابقة انتهت، فإن الكتابة عنها تجري في الحاضر، ما يعني أن التاريخ يُصنع، واقعياً، في الحاضر، فالمؤرخ حين يكتب عن حقائق قديمة أو يعيد تدوير مادتها الخام إنما يحقنها بأهوائه وميوله، حتى الوثائق والمقتنيات التي تبقى شاخصة بمرور الزمن بحاجة إلى تفسيرات إنسانية تنسج حولها معنى محددا، ولذلك فالروايات التاريخية ليست في نهاية الأمر سوى تصورات شخصية متلونة بإطارها الزمني، مما يجعلها خادما مطيعا للأهواء والميول.

والحال كذلك، لم تكن زلة لسان قول زعيم حزب سياسي مرتبط بالسماء ومدجج بالسلاح حتى الأسنان والنواجذ بأن التاريخ يستحق أن يستشهد المرء من أجله، وأن حروبه الأولى إنما تستأنف رحاها الآن، حقاً إنه لزمن بائس الذي تدفع فيه ذهنية لا تاريخية أبناء مجتمعها نحو الانتحار باسم التاريخ.