الحياة ليست محصلة مكاسبنا، بل محصلة ما ندفعه ثمناً عادلاً لخسائرنا.

Ad

هؤلاء الذين يمسكون زمام حياتهم الضيقة، لئلا تجمح في فضاء الحياة الأوسع، مخافة أن يفقدوا السيطرة والقدرة على العودة للصراط المستقيم، الذين يحسبون خطواتهم بالمسطرة والقلم والورقة والآلة الحاسبة، قبل أن يقرروا المضي قدماً خطوة أخرى، ويعقلون ركاب خيالهم إيماناً بأن الخيال متاهة إبليس التي لا ينجو من شرّها أبداً من دخلها، ويشعرون بالرعب من مجرد فكرة تجربة شيء جديد لم يختبروه من قبل، وكأنما هم وُلدوا بخبراتهم الحالية التي يعرفون، ويكرهون المفاجآت وما تخبئه الصدفة خلف ظهرها، وتعطب شبكية أعينهم الصورة الثلاثية الأبعاد وتصيبها بالضرر البالغ، لأنها اعتادت التعامل مع الصور ذات البعد الواحد!

منظمون في حياتهم لدرجة أنهم يحسبون جيداً عدد السعرات الحرارية التي ستدخل معدتهم، وكمية الضوء الذي يتسرب إليهم من مائدة الشمس، ودرجة الزرقة التي تنساب إليهم من مرسم البحر، والخضرة التي تنفضها الأشجار في طريق خطواتهم، يحسبون ويحددون كل ما يمس دائرة حياتهم الصغيرة، يؤمنون بأن أمان حياتهم تلك بعزلها عن الحياة، ومحاولة التحكم بكل ما يفيض من نهر الحياة الكبرى، ليصب في صحن حياتهم الصغير.

هؤلاء الذين وقفوا متفرجين من خلف النوافذ على الحياة وهي تمارس كل طقوسها اليومية، وحاولوا أن يقفوا على الحياد منها إلا بالقدر الذي لا يربك نظام حياتهم الرتيب، لتغدوا أعمارهم مهما طالت لا تتعدى أسبوع أو ربما أكثر بأيام قليلة تتكرر ما عاشوا، هؤلاء إن نجحوا في ذلك فهم خسروا الحياة كلها مقابل بضعة أيام آمنة مستقرة، فلا ربحت تجارتهم.

للحياة عبثها، وشغبها، وجنونها، وشيطنتها، وجموحها، واللامعقولها، ولن ينجينا تمتْرسنا خلف عقولنا لاتقاء شطحاتها، وتجنّب الخسائر نتيجة مجاراتها في مغامرتها المخيفة أحياناً، أعتقد أن جلّ ما يمكن أن ننجح به هو أن نحاول قدر الإمكان أن نحسن اختيار خسائرنا مع الحياة، لا أن نحاول تجنب تلك الخسائر، ولكي نكون مؤهلين لاختيار خسائرنا لابد من أن يتوفر لدينا عنصران، العنصر الأول أنه لابد أن نقتنع بمفارقة أن الحياة نفسها رغم كونها هبة لنا مجانية حين نولد إلا أن كل ما تهبنا إيّاه لابد أن ندفع ثمناً مقابل له، ولا شيء على الإطلاق مجاني فيها، عندما نقتنع بذلك يبدأ التفكير بما هو الثمن العادل لكل ما نأخذه من هذه الحياة، فالمتعة التي لا تستحق ما سندفعه مقابلاً لها بالإمكان التخلي عنها، ونتمسك بتلك التي نعتبر خسائرنا في مقابل الحصول عليها ثمناً مستحقاً وعادلاً لها، والثمن العادل يحدده مقدار ما يضيفه ما نحصل عليه لمجمل حياتنا، أو حتى للحظة معينة في حياتنا قد لا تتجاوزها، ومن هنا تبدأ اختياراتنا لخسائرنا.

العنصر الثاني هو الاقتناع التام بأن الحياة تختبرنا، وأن الشق الآخر من معادلة الحياة هو أن نختبرها، ونحن لن نختبرها إذ لم نعشها، ولن نعيشها إذ لم نتقبل خسائرنا معها.