تحليل سياسي : بوتين... وانسحاب اللحظة المناسبة
رغم ما قيل في الانسحاب الروسي من سورية، من أنه جزئي ويحمل في طياته تكتيكات مدروسة، أو أنه لا يغير في استراتيجية المحور الروسي الإيراني، الذي قرر إنقاذ النظام السوري، وفعل ذلك، فإن هذا الانسحاب يبقى منعطفاً مهماً في سياق الحرب السورية التي دخلت عامها السادس، وتطوراً بدأ الفرقاء المعنيون بهذا النزاع المرير يعيدون حساباتهم على أساسه.قال كثيرون حين دخل الروس بقوتهم العسكرية حمأة الصراع بين جيش الأسد وجيوش معارضيه، إن الرئيس بوتين تورط في الوحل السوري، وإن الأميركيين تركوا الفراغ يستدرجه ويستدعيه، كما أغراهم الاهتراء، الذي وصل إليه نظام صدام في 2003، بإزالته، وورطهم في دخول بلاد الرافدين، لكن ما لا يلتفت إليه البعض أن الأميركيين لا يدخلون في مثل هذه الصراعات إلا بعد كسبهم تأييداً ودعماً دوليين على كل الصعد، لاسيما على الصعيدين المادي والمعنوي، الأمر الذي يضمن الاستمرار والنجاح في أغلب الأحيان، على عكس نهج النظام الروسي الحالي.
غير أنه من الواضح أن بوتين المقامر، الذي يفاجئ بخطواته وباستخدام القوة، يبدو غير مغامر ليخسر بعناد غير مدروس ما كسبه بالتحدي وركوب المخاطر. فها هو عشية بدء جولة مفاوضات جنيف بين السوريين يهدي إلى "عملية التفاوض" دفعاً يعيد إليها بعض التوازن، ويبرد فيها الرؤوس الحامية، فالروس بعدما عملوا مع الأميركيين الشهر الفائت على تحقيق هدنة معقولة، خفضت الأعمال العدائية على مجمل الأراضي السورية بنسبة كبيرة، أبدوا امتعاضهم مراراً من تصريحات الرئيس الأسد المتكررة، التي تنضح بالانفصال عن الواقع، وبالغرور المرضي، ولا شك أنهم استاؤوا من تصريحات وليد المعلم الحاسمة بأن "الرئيس خط أحمر"، وأن "لا المعارضة ولا أميركا ولا غيرها" يستطيع أن يهز هذه الثابتة، في حين أن التفاهمات، التي عمل عليها المجتمع الدولي منذ "جنيف واحد" حتى اليوم، تصب جميعها في خانة الوصول إلى صيغة انتقالية للحكم مدتها 18 شهراً، صحيح أن رحيل الأسد فيها ليس محسوماً، لكنه مطروح، والباب إليه مفتوح، ولو من قبيل عبارة أن الشعب السوري يقرر ذلك.لم يكن في وارد الروس، بالتأكيد، أن يدخلوا حرباً لا نهاية لها في سورية، بل أرادوا إنقاذ النظام والضغط العسكري لتحقيق تسوية، يتمتع حليفهم خلالها بأرجحية ما، كبيرة أو صغيرة، أو تكون متوازنة تتيح لهم القول إنهم لم يتركوا حليفاً لهم، وأبعدوا خطر المتطرفين عن بلادهم، وعادوا إلى المسرح الدولي من خلال عرض قوةٍ أجبر العالمَ على التعامل معهم، بعدما أدار لهم الغرب ظهره وكبّلهم بعقوباته بعد ضم القرم واندلاع نزاع أوكرانيا. ومن غير الدخول في تفاصيل كثيرة، لا شك أن الروس أدركوا استحالة تحقيق انتصار كامل في وجه إرادة أكثرية الشعب السوري، وفي مواجهة المحور العربي الإسلامي، الذي باتت السعودية تقوده ميدانياً ودبلوماسياً، وتضع في سبيل تحقيق أهدافه موارد عسكرية واقتصادية ضخمة، إضافة إلى أن الغرب، الذي ترك روسيا تقصف المعارضين وتعيد إلى الأسد مناطق خسرها منذ اندلاع الثورة، أفهمَ موسكو أن النصر الكامل مستحيل، وأن أفق الحرب هو حل سياسي متوازن يحفظ الدولة السورية، لا انتصار أسدي إيراني يعيد عقارب الساعة إلى الوراء. لم تكن لحظة سعيدة لبشار الأسد، تلك التي أبلغ فيها بوتين العالمَ أنه بدأ الانسحاب، فحسابات دولة كبرى مثل روسيا لا تتطابق مع حسابات مَن يستجدي التدخلات الخارجية للبقاء في السلطة، فها هي روسيا التي أنهكها انخفاض سعر النفط، بل حرب النفط المدروسة، تقول إنها تريد إنقاذ الروبل قبل وصوله إلى قعر جديد. وها هي روسيا، التي تتعرض لضغط أوروبي بسبب موضوع اللاجئين، الذي صار قضية دولية، تتجاوب فجأة مع مساعي الأوربيين لإنقاذ قارتهم من الغرق في أمواج جديدة من الوافدين، وها هي روسيا التي عانت العقوبات بعد أحداث أوكرانيا تعود من باب التعاون مع العالم الغربي، من غير أن ننسى أن روسيا، التي تختلف مع السعودية في سورية، متوافقة معها على علاقة استراتيجية تجسدت منذ "عاصفة الحزم" في اليمن، ويتطلع الطرفان إلى تعزيزها عبر التفاهم على مصير الرئيس السوري. كل ذلك لا يعني أن الروس حققوا انتصاراً في سورية. نعم، قد أنجزوا مجموعة أهداف، لكنهم أدركوا أن حلب وأعزاز خطان أحمران، وأن مزيداً من كسر التوازن السوري سيدخلهم في أفغانستان جديدة، وأن الصواريخ المضادة للطائرات ستأتي يوماً ما إذا أوغلوا في المقاومة وحولوها إلى مغامرة فوق حافة الهاوية.هكذا انسحب الروس في لحظة ربما تعب العالم خلالها من نزاع لم يعد يهدد الشرق الأوسط ولا الإقليم فحسب، بل انتقل إلى ضفاف المتوسط وأوروبا، وأثقل بالدم شوارع كثيرة في مدن العالم الحية.