بعد كاليفورنيا، يحتضن «غاليري أجيال» في بيروت معرض «خطاب الصمت» للفنان العراقي سعد الكعبي (10-26 الجاري)، متضمناً مجموعة من اللوحات المتمحورة حول الوجوه، باعتبار أن الإنسان كائن مهمّ وحيوي، لذا يترصّده الكعبي بمشاعره المختلفة، لا سيما آلامه وتناقضاته.
سعدي الكعبي فنان ملتزم، يرتكز التزامه على المزج بين التأليف الفني والقضايا الاجتماعية، المعتقدات السياسية والوطنية والروحية، وعلى أهمية الموقف أو التصرف، فضلاً عن تحديد مهارات الفنان في اختيار الأسلوب وبلوغ مرتبة الخلق والابتكار والإبداع على أساس تناغم العناصر المختلفة.للصمت لدى سعدي الكعبي مفهوم خاص وقدرة لامتناهية على التعبير وحتى الحوار، فهو يحثّ المتفرج على التحدّي ويضفي عليه إحساساً بالإلفة، ملعبها اللوحة وما تحمل من خطوط، تحدد الأشكال من دون أن تغرق في التفاصيل. المهم الإحساس بحضور الإنسان الشامل، الذي يعكس تناقضات المشاعر لدى الفنان من خلال موقف أو حركة، أو لون...لم تقطع الغربة حبل الوصال بين الفنان ووطنه، بل على العكس، حفّزته على العطاء باسم وطنه، فأغنى تجربته الإبداعية بعناصر من عمق الحضارة التي ينتمي إليها، وجذرها برموز من صميم التراث، فأضفى هوية كيانية لأعماله، عززها بخبرة طويلة مع الخط واللون، اكسبت الفضاء التشكيلي لديه خصوصية وفرادة، وتجاوز تأثير بلده العراق إلى الأقطار العربية المختلفة. إذا كان الجسد هو المحور الأساس في لوحاته، إلا أن هذا الجسد بالذات يتحرّر من ماديته ليصبح وسيلة تعبير رمزية، واضحة حيناً ومتخفية وراء الإشارات حيناً آخر، للدلالة على الأمل، القلق، الهموم، الغموض والوضوح في آن، فهو يتبع الفكرة التي تملي عليه طريقة إخراجها، لإبراز الموقف والسلوك والرؤية في قضايا تهم الإنسان بشموليته، وليس ذلك القابع في هذا البلد أو ذاك المجتمع من دون غيره... هنا تكمن جمالية فن سعدي الكعبي.تجذر في الأرضمن خلال تقنيّة الزيت على القماش، أعطى سعدي الكعبي روحاً لخطوطه وألوانه التي اتسمت ببعض من تفاؤل وزهو، كيف لا وهو ابن حضارة عريقة لا تقوى عليها المحن مهما اشتدّت، لذا رسم شخوصه متجذرة في الأرض وراسخة في المكان، تكتب مشاهد حياتها تارة وتتفرج على تتابع الأحداث أمامها تارة أخرى، لا سيما فكرة الرحيل، وتحوّل الأشخاص إلى أطياف وهم يبتعدون، وكأن الحياة أضحت مجرد فيلم سينمائي، والناس مجرد ذكرى أو صورة تعلق على الجدران.لوحاته طالعة من نبع الحنين إلى الوطن والأمل بالعودة إليه، بعدما طالت الغربة عشرات السنوات، لذا تبدو شخوصه في ارتحال دائم نحو الوطن، البعيد البعيد، الساكن في الحلم والروح والوجدان، بعدما جرّحه الواقع وشوهت وجهه المآسي وروائح الموت، أو تهرول إلى الأفق هرباً من الألم والقلق، تثور حيناً وتهدأ حيناً آخر، تحيط بها خطوط تفصلها عن الأرض، فالجسد سامٍ وليس ترابياً، رغم أن القاسم المشترك بينهما لون التراب. هذه الدورة بين الحياة والارتحال، تنساب في اللوحات بسلاسة سطرتها ريشة استقت ألوانها وخطوطها من عشق الفنان للوطن وللإنسان فيه، متجاوزة الزمان والمكان إلى حيث الارتقاء والسمو...فنان عالميسعدي الكعبي أحد أبرز الفنانين التشكيليين ليس على صعيد العراق فحسب، بل على صعيد العالم العربي والعالم أجمع، أعماله مرآة تعكس جماليات الحضارة العراقية والفن العراقي والتراث العراقي إلى العالم.ولد في النجف- العراق عام 1937، ودرس الفن في المدارس الثانوية في العراق (1960 – 1966). شغل وظيفة مدير للثقافة الفنية في وزارة الثقافة (1985 – 1988)، وهو مؤسس ورئيس لنادي التشكيليين العراقيين (1985 – 1987). انتخب رئيساً لجمعية الفنانيين التشكيليين العراقيين (1990 – 1996)، وشارك في لجنة التحكيم الدولية لبينالي دكا الآسيوي- بنغلادش (1990)، وفي لجنة التحكيم بينالي الفن الإسلامي – طهران (1994).أقام معارض شخصية ومشتركة في بغداد، باريس، روما، نيويورك، موسكو، ستوكهولم، لندن، براغ، بكين، أنقرة، وارسو، الكويت، فرنسا، الهند، إيطاليا، مصر، بيروت...حائز جوائز عدة من بينها: جائزة تقديرية مهرجان كان سورمير العالمي- فرنسا (1980)، جائزة الشراع الذهبي بينالي الكويت العربي (1981)، الجائزة الأولى ترينالي الهند العالمي (1982)، الميدالية الذهبية- بينالي دكا الآسوي (1986)، شهادة التميز في الغرافيك في المهرجان العالمي للفنون التشكيلية والغرافيك بلجيكا ( 1998).له أعمال فنية في متاحف: بغداد، لشبونة، ستوكهولم، نيوديلهي، براغ، عمان.قدم لوزارة الثقافة العراقية مشروعاً لنصب ضخم يتوسط بغداد، مستوحى من قصيدة «دجلة الخير» للشاعر محمد مهدي الجواهري، يروي للأجيال سفر الثقافة العراقية، ممثلة بنهر دجلة وقصيدة الجواهري.كتلة حب وفنحول مشاركة سعدي الكعبي في بينالي دكا كتب د. علاء حسين بشير: «رغم بساطة خطوط سعدي الكعبي، إنما ما أراه في أعمال هذ الفنان يعبر عن مدى النضج الفني، وإحساس بالخزف والحفر والتصوير وحتى النحت البارز، ولكن تكمن القوة في أن ذلك كله يشكل وحدة تصعب تجزئتها، إنها كتلة فن وحب فنان لفنه. هذه الأعمال بالذات رشحته لينال الجائزة الأولى في بينالي دكا الثالث 1986.
توابل
لوحات سعدي الكعبي في «أجيال» ببيروت... حنين إلى وطن مزقه الواقع فسكن الوجدان
18-03-2016