الإرث التاريخي له اليد الطولى في ما ينزل بنا من بلاء، وهو تاريخ سوغته الثقافة العربية الإسلامية وصانته التنشئة التربوية والنفسية التي شكلتها العصبيات القبلية والدينية والروابط الاجتماعية الخام. وحيال ذلك، فإن المرء كي يغدو خيرا وحاضنا لسلم القيم الإنسانية وكي يرنو إلى شيوع العدل والحرية وازدهارهما يجب عليه ألا يعتنق هذا التاريخ من دون فحص ونقد وتمحيص وتشكيك ومساءلة. ذاك أن نظرة عجلى للتاريخ الإنساني على امتداده، تبين بشكل صريح كيف أن الإنسانية أثقلت بالمعاناة والانقسام والصراع بسبب الاختلافات الدينية، على النحو الذي كشفت فيه صراعات أهل العقائد الأوائل والمختلفين في مذاهبهم عن الجانب الأكثر قبحاً وهمجية في الإنسان.

Ad

ولو كان للتاريخ لسان لوجدناه ينطق بشتى الفظاعات التي ارتكبت باسم الدين والإيمان، والكيفية التي وجد فيها الطغاة والمستبدون في مثقفي السياسة الشرعية والفقه السياسي خير معين في وضع نظرية للحكم والسياسة تنطوي على كل معاني الطاعة والخنوع، فضلا عن تأصيل ظاهرة الاستبداد وتوظيفه وتحويله إلى وضع طبيعي، وهؤلاء هم من صنعوا الشعار القاتل لوحدة الأمة والجماعة وجعلوه مسوغا مشروعا لقمع العصيان والتغيير بذرائع مقولات مسمومة من صنف "جور دهر خير من ساعة هرج".

ويتساءل المرء في خضم حروب العقائد، ماذا عن الآخر؟ ماذا عن المشاعر الدافئة والنبيلة التي يحملها البشر لبعضهم البعض على الرغم من عدم معرفتهم لبعضهم على المستوى الشخصي؟ فالمرء حين يتعرف عن قرب على صنو له من حضارة أو أمة أخرى سيغدو عسيرا عليه أن يخضعه لآليات التعميم المدمرة أو أن ينبذه بسبب الهوية التي ارتضاها لنفسه، ولكن في المقابل، القسمة التي تفرضها العقائد يسير تحققها، وهي بشكل جلي الأكثر عمقا بين البشر على مر التاريخ، والبطن الخصب للصراع والمعاناة. وحين يجنح مخيال المرء إلى مصاير داكنة كهذه تشتعل في داخله نيران الخوف الإنساني، والرهبة من تصادم الهويات وتوتر المعتقدات وانهيار القيم الكونية وشيوع الجور والفقر والامتهان.

 وكما أشار كثيرون بحق، فإن الصراع الذي تحركه العقائد والأديان ليس سوى البوابة العريضة التي يعبر من خلالها الصراع الشامل والمحتدم على المستويات كافة، وهذا معطوف على حقيقة أن الهيمنة والقمع الديني يبتدعان بسخاء طرائق تقطع الطريق على الخير الإنساني على إطلاقيته، مما يرسم وضعا إنسانيا غاية في البؤس، وتفيدنا أطوار التاريخ الأشد حساسية بالكيفية التي قاومت فيها المؤسسات والتنظيمات الدينية الحقيقة وكل لحظات التقدم في العلم. فالمعركة الضروس التي خاضها الإنسان الحديث بغية إنجاز التحرر والتقدم والتطور لم يكن خصمه فيها سوى الهياكل الدينية المنظمة المتحالفة مع الاستبداد والطغيان.

إن فكرة السيطرة على النفس والجسد وإخضاعهما للمراقبة هي أدهى أسلحة الهياكل الدينية للسيطرة على أذهان الآخرين، وما نقيضها التنوير والتقدم إلا الفكرة البسيطة التي مفادها أن هناك هامشا قابلا للتمدد في الحياة يتمكن من خلاله الأفراد من الاختيار والتفكير بأنفسهم لأنفسهم، وأن يعيشوا حياة خالية من وصاية سلطة فكرية أو روحية ومن حكايات قديمة تعود إلى عصور سحيقة.