ثورة الشيخ بشير الحارثي (2-4)
يرى الباحثون أن علاقة ألمانيا بالرق وتجارة الرقيق بحاجة إلى المزيد من الدراسة، ذلك أن ألمانيا لم تظهر ككيان سياسي موحد كما إنكلترا أو فرنسا مثلاً، قبل القرن الخامس عشر، وكانت "الإمبراطورية الرومانية المقدسة"، كما كانت تسمى ألمانيا الحالية، اتحاداً كونفدراليا تحت حكم "آل هابسبورغ" حكام النمسا، حيث تعرضت هذه "الإمبراطورية الرومانية" إلى المزيد من الانقسام أثناء الحركة الإصلاحية المسيحية في القرن السادس عشر. ولم تمتلك الولايات الألمانية مستعمرات في أميركا أو أساطيل في المحيط الأطلسي للمساهمة في تجارة الرقيق كبقية السفن الأوروبية، ولكن عندما وصل شارل الخامس إلى الحكم في الإمبراطورية الرومانية عام 1519 كان بحكم الوراثة وقوانينها في أوروبا ملكا على إسبانيا كذلك مع مستعمراتها في "الدنيا الجديدة" أميركا، وهكذا تولى ملك ألماني نمساوي حكم إسبانيا في مرحلة دقيقة من مراحل تجارة الرقيق الإفريقية، حيث عمد شارل الخامس إلى توسعة نطاق تجارة الرقيق، مانحاً الامتياز لأحد رجالات البلاط الهولندي، حيث كانت هذه الدولة كذلك ضمن أملاكه وهو لورنزو غوريفورد Gorrevod بأن يصدّر أربعة آلاف مسترقّ إفريقي عام 1518 إلى أميركا، فكانت هذه بداية تجارة الرق حيث توالت بعدها رحلات نقل الرقيق إلى مختلف المناطق في القارة الأميركية سنوياً بالآلاف.
ورغم أن ظهور حركة مارتن لوثر الإصلاحية المسيحية في ألمانيا في الفترة نفسها فإن هذه الحركة المسماة بالبروتستانتية لم تؤثر مباشرة في هذه التجارة، إلا أن الكنائس البروتستانتية تحولت في القرن التاسع عشر إلى قوة رئيسة في محاربة الرق، ولكن لا مجال لاستعراض تاريخ هذه الحركة في ألمانيا زمن "بسمارك" وقبله، وموقف الكنيسة من الحركة الاستعمارية الألمانية الوليدة.أشرنا في المقال السابق إلى مرونة الإدارة الاستعمارية البريطانية وذكاء الساسة الإنكليز في مجال التعامل مع الشعوب المحلية الخاضعة لهم، وبخاصة الزعماء والشخصيات الدينية وشيوخ القبائل، وهذا ما لم يتقنه الألمان في شرق إفريقيا. يقول د. تركي: "كان الفتور سمة العلاقة بين الحكام الألمان والمحكومين من العرب والسواحلية والأفارقة، حيث لجأ الألمان في إدارتهم للمناطق التابعة لهم إلى إحلال موظفين ألمان بدلاً من الموظفين الذين كانوا تحت سلطة السلطنة العربية في زنجبار، كما قام الألمان بتعيين شخصية ألمانية حاكما عاما للمستعمرة يخضع مباشرة لوزارة مستعمراتهم، وكذلك تعيين مديرين للمناطق المختلفة الواقعة تحت سلطة الحاكم العام الألماني.ومن المفارقات أن كلا من الحاكم والمديرين لم يبذلوا جهدا يذكر للاحتكاك بالوطنيين من عرب وأهل ساحل وأفارقة ومعرفة حاجاتهم ورغباتهم، وبمعنى آخر لم يهتموا كثيرا بمعرفة طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية للشعب الذي أخضعوه لنفوذهم وسيطرتهم، ومن المفيد ذكره أن الشركة الألمانية كحال أغلب الشركات الغربية التي عملت في إفريقيا شكلت قوات تابعة للشركة وتحت تصرفها، وكان الهدف حماية الشركة وموظفيها وفرض الأمن في المنطقة التابعة لها، وأثر هذا على السلوك الألماني تجاه الأهالي، حيث استخدموا العنف والشدة في التعامل مع أهل الساحل والداخل اعتقادا منهم أن هذا السلوك هو أنجع الوسائل لفرض الهيمنة والنفوذ، فلا غرابة أن تصف صحيفة بريطانية سلوك موظفي الشركة الألمانية بالمتعجرف، حيث إنهم يفتقدون الفطنة واللباقة وطول الأناة، في عملية تعاملهم مع سكان البلاد.كما لجأت الشركة الألمانية إلى استغلال السكان المحليين للعمل الإجباري والسخرة في مزارعها، فليس من الغريب أن تنطلق الشرارة الأولى من مزارع العمل الإجباري في كل من "باغامويوا" و"فنجاني"، بل إن الرقيق المحررين الذين أجبروا على العمل في الشركة الألمانية فضلوا العودة إلى مالكيهم السابقين، فلا عجب من انتفاض الأهالي أحرارا وعبيدا لحماية مصالحهم من الاستغلال الألماني".وسنرى في المقال القادم تطور مسار الثورة ومصيرها!