مع انبهاري بالتجربة الديمقراطية في الكويت، وهي الأولى من نوعها في منطقتنا، نشأ حرصي على الكتابة الصحافية لأكتب عنها، ما لها وما عليها، فهي تجربة خرجت من رحم الدستور، وأظلت المجتمع بوافر ظلها.
في زخم الاحتفال بالعيد الوطني، أعاده الله على الكويت بمزيد من الرفاهية والمكانة الدولية، وعلى المواطنين بمزيد من الحرية، والمساواة والعدالة الاجتماعية، وهو ما تمناه صاحب السمو الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح في تصديقه على الدستور وإصداره، فإن هناك قامات رفيعة، من القيادات الوطنية قد غابت عن المشهد السياسي، إلا أن إنجازاتها لا تزال تدوي في سمع الزمن وتنطق بأهم الإنجازات في مسيرة الحياة الديمقراطية، منهم من وافاه الأجل، ومنهم من غيّبه المرض، ومنهم من غاب عن المشهد السياسي، ولكنه ظل يعمل في خدمة وطنه جندياً مجهولاً.ولئن اقتصر مقالي على البعض القليل منهم بحكم عملي معهم، فإن الكويت كانت ولا تزال ولادة للقامات الرفيعة من القيادات.ويبقى الحبقالها لي المستشار الراحل د. وحيد رأفت، بعد أن سلمني مذكرة برأيه في تفسير أحكام المادة (37) من اللائحة الداخلية لمجلس الأمة، وأنا أطلب منه أن يحدد أتعابه عنها، في حديقة منزله بالمعادي، بعد رفضه لها، ثم استطرد قائلا لي: لقد غادرت الكويت، منذ عشرين عاماً تقريباً، ولكنها بقيت في قلبي.وللاستعانة بخدماته في الكويت قصة، عندما سأله الوزير عبدالعزيز حسين، تغمده الله برحمته، وكان موفداً للتعاقد معه على العمل مستشاراً بالكويت، أن يحدد الراتب الذي يريده، فأجابه بسؤال ما هو أعلى راتب يتقاضاه مستشار بالكويت؟ فأجابه 700 دينار يتقاضاها مستشار سمو الأمير، فحدد الدكتور وحيد راتبه بـ 701 دينار.لقد ترفع الرجل عن الحديث عن الماديات... ولكنه كان حريصاً على كرامته.ويبقى مشاري علم استقلال القضاءأما من كلفني جلب هذه المذكرة، لمن يتساءل، فهو مشاري العنجري علم الكويت الذي كان يخطو أولى خطواته في حياته البرلمانية، ليصبح بعد ذلك أول وزير عدل يحقق استقلال القضاء في الكويت عام 1996، كما كان صبري أبوعلم أول وزير عدل يحقق هذا الاستقلال في مصر عام 1943، فكلاهما علم هذا الاستقلال، الأول بالكنية والثاني بالكنية والاسم.والواقع أنه لم يقبل المنصب الوزاري في عام 1992، إلا لتحقيق هذا الهدف الذي وضعه نصب عينيه، وجعل استمراره في هذا المنصب رهناً بصدور قانون استقلال القضاء.كان ولايزال رجل الدولةوعندما تبوأ مشاري العنجري مقعده البرلماني عام 1981، اقترن اسمه بمنصبه وكيلاً مساعداً لشؤون الميزانية في ديوان الخدمة المدنية، يحسن الجمع والطرح، ولكنه كان بحق رجل دولة، يبنيها في الخيال، ثم في الحقيقة، ويرسم لبنائها الخطط، عندما بنى في خياله ثم في الواقع، قانون الخدمة المدنية كان يرى أن العنصر البشري، في الجهاز الإداري للدولة هو الركيزة التي يقوم عليها بناء الأمم.كان علماً للدور التشريعي للمجلسوكان أول إسهاماته، إحياء الدور التشريعي لمجلس الأمة، والحفاط على الدستور، فخاض أهم معركتين في الحياة الدستورية كلها.فقد كان أبوفيصل مصدوماً في استهلال حياته البرلمانية بأن مجلس الأمة، وهو الذي يمثل السلطة التشريعية، غير قادر على إقرار تشريع واحد لا توافق عليه الحكومة، وأن الحكومة تكتفي – منذ بدء الحياة البرلمانية في الكويت- بالامتناع عن التصويت على أي اقتراح بقانون يقدمه الأعضاء ليسقط الاقتراح، ولو كان مؤيدوه 32 عضواً، أي ما يقرب من ثلثي الأعضاء، ولو لم يعارضه أحد، بالرغم أن نصاب الحضور يزيد على أربعين عضواً.وهو ما اعتبره د. وحيد رأفت، تطبيقاً غير سليم لأحكام ما جرى عليه العرف البرلماني مدة طويلة، لذلك طالب في نهاية مذكرته بتعديل أحكام هذه المادة، وهو التعديل الذي أعده النائب مشاري العنجري، وصدر به القانون رقم 3 لسنة 1982، الذي كان أول وأهم إنجازات أبوفيصل في مجلس الأمة، ليسجل باسمه أنه علم الدور التشريعي للمجلس.ويبقى علماً في أزمة تنقيح الدستوروكان أبوفيصل يحمل هموم تنقيح الدستور، كما لم يحملها أحد غيره، بعد أن وافق مجلس الأمة في جلسته المعقودة بتاريخ 14/12/1982 على الاقتراح بتنقيحه، من حيث المبدأ والموضوع.وفي منزل أبوفيصل بالنزهة، كان أحمد السعدون نائب رئيس مجلس الأمة وقتئذ وحمد الجوعان مدير عام التأمينات الاجتماعية، وأبوفيصل يجلسون لمناقشتي في مسودة التقرير الذي كلفني حمد ومشاري بإعداده حول موجبات رفض الاقتراح بتنقيح الدستور في ضوء رؤيتهما لأهداف هذا الاقتراح ومراميه ومحاوره وتداعياته على النظام الديمقراطي، والنظام البرلماني، وموجبات رفضه.وما كدنا نبدأ المناقشة حتى اتصل الرئيس العدسانى، بنائبه أحمد السعدون في منزل أبوفيصل ليطلب منه موافاة لجنة الشؤون التشريعية والقانونية بمسودة التقرير فوراً، والذي أخذ طريقه سريعاً إلى اللجنة، وكان يترأسها النائب ماجد عيسى، وقد تبنت اللجنة هذه المسودة كاملة في تقريرها الصادر 10/3/1983، بعد أن راجعها المستشار الراحل مصطفى كامل إسماعيل، مستشار المجلس، وهي مراجعة سريعة لم يستطع معها أن يضيف إلى ما كتبته شيئاً من علمه الغزير، فاكتفى باستخدام يراعه الرشيق في تعديل بعض الألفاظ والكلمات، واستبدل بها كلمات أكثر رشاقة، وربما أوفى بالمعنى الذي قصدته.وعلى أثر تقديم هذا التقرير، تقدم بعض الأعضاء ممن سبق أن وافقوا على الاقتراح بالتنقيح من حيث المبدأ والموضوع إلى صاحب السمو الأمير بمذكرة بتاريخ 4/5/1983 يلتمسون فيها من سموه أن يعالج هذا الأمر بحكمته، حيث استجاب سموه إلى طلبهم وأصدر أمره السامي بذلك إلى الحكومة بسحب الاقتراح.الجوعان الجندي المجهولومن الإنصاف أن يذكر لحمد الجوعان، هذه القامة الرفيعة التي ارتبط اسمها بنظام التأمينات الاجتماعية، فضلاً عن إسهاماته في العمل التشريعي والبرلماني في فصلين تشريعيين، أنه كان جندياً مجهولاً في إسهاماته الأخرى في الحياة العامة والحياة الدستورية والبرلمانية، وأستميحُه عذراً، في أن أفرد مقالاً قادماً لمسيرته، فهو مفخرة ومعجزة الكويت، فلا يجوز أن تكون مسيرته جزءاً من مقال، وهي لا تتسع لها مجلدات.دستور الكويت مفخرة الدساتيروالواقع أن حرصي على الكتابة الصحافية نشأ مع انبهاري بالتجربة الديمقراطية في الكويت، وهي الأولى من نوعها في منطقتنا، أكتب عنها، ما لها وما عليها. وهي تجربة خرجت من رحم الدستور، فأظلت المجتمع الكويتي بوافر ظلها.ويرجع الفضل في هذا الدستور الذي يعتبر مفخرة الدساتير إلى الرعيل الأول الذي رحل، واحداً تلو الآخر، بعد أن أثروا الحياة الديمقراطية بهذا الدستور.ومن الوفاء أيضاً، أن نذكر للخبير الدستوري، د. عثمان خليل عثمان ـ رحمة الله عليه ـ الذي عاونهم في وضع أحكام هذا الدستور، فضله في هذه الصياغة المحكمة لنصوصه، ومشاركته أعضاء المجلس التأسيسي اجتماعاتهم ومناقشاتهم، وشرحه لكل نص من النصوص ورده على كل تساؤل لأعضاء المجلس التأسيسي مستشهداً بالاتجاهات الدستورية الحديثة في العالم.وقد كان يقف إلى جوار هذه القامات الرفيعة مستشارون وافدون قدموا لهذا البلد كل ما لديهم من علم وخبرة ومعرفة، وأسهموا في هذا التقدم مع الخبرات الكويتية الصاعدة، من هؤلاء الذين ورد ذكرهم في المقال وغيرهم، منهم من رحل عن الحياة ومنهم من رحل إلى خارج البلاد، ومنهم من لايزال يعمل، وثقافة غربية عن هذا المجتمع مجتمع الأسرة الواحدة، تنسج شباكها حوله، هي ثقافة العداء للوافدين، ولكن يبقى الحب للكويت.
مقالات
ما قل ودل: الجنود المجهولون في مسيرة الديمقراطية
14-02-2016