الأساطير القاتلة واليقين الأسود

نشر في 28-02-2016
آخر تحديث 28-02-2016 | 00:01
 منصور مبارك المطيري إذا كان التواصل بين البشر ينسج بينهم توافقات محددة وأمورا مشتركة فإن لكل منهم، سواء فرادى أو جماعات، غايات ومقاصد متعارضة، فضلا عن ذلك يلاحظ المرء أن تلك المقاصد والغايات تتعارض أحيانا كثيرة على المستوى الفردي مع بعضها. 

إذا صح درس جان فرانسوا ليوتار بألا مكان في عالمنا المعاصر للمشاريع الكونية المصممة لتغيير العالم بطريقة معينة، وأن جُل ما نطمح إليه هو تسيير الأمور بشكل كفؤ وفق ما هو متوافر لدينا من نظام، فإن مجتمعاتنا تتبدى ذات مناعة هائلة تجاه هذه الحقيقة الليوتارية، فما زال بيننا من يدعو بحماس لمثل تلك المشاريع، بالطبع بصيغ أقل تعقيدا من مثيلاتها في القرن العشرين، ولكنها تبزها همجية وبربرية، ومصدر المناعة أن الأساطير والخرافات المتعلقة بالاجتماع الإنساني وشؤونه في مجتمعاتنا مازالت لها قوة هائلة، وما انفكت تجد لها سندا في الواقع يدعمها ويبرر استمراريتها، ولا ريب أن التفكير الأسطوري يستفيد من "العقل المحلي" المرسوم وفق قناعات مغلقة كالأديان والطوائف والعشائر والإثنيات، ويصنع لنا اندماج الفكر الأسطوري والعقل المحلي قاموسا خاصا لتفسير الكون والقيم والحياة.

وكبرى هذه الأساطير الميل إلى استخدام الـ"نحن" في حيز السياسة، فما الذي تشير إليه هذه الـ"نحن"؟ إذ إنها غامضة وملتبسة، فهي قد تحيل في مفهومها الجغرافي إلى بيئات حضرية مختلفة، وإنسانيا قد تشير إلى ملايين الأفراد، لكل منهم أهداف وقيم ومثل مختلفة، والـ"نحن" سواء كانت عربية أم إسلامية، فإنها تتغير باستمرار، وكما أنه لم تكن هناك "نحن" من قبل، فلن تكون في المستقبل أي "نحن" على الإطلاق.

فالبشر حتى إن نسج التواصل بينهم توافقات محددة وأمورا مشتركة فإن لكل منهم، سواء فرادى أو جماعات، غايات ومقاصد متعارضة، فضلا عن ذلك يلاحظ المرء أن تلك المقاصد والغايات تتعارض أحيانا كثيرة على المستوى الفردي مع بعضها.

وهذا الجنوح الأسطوري يستدعي ممارسة مقتصدة على مستوى اليقينيات، وإلى جعل الأفكار المطلقة بسيطة وقليلة قدر الإمكان، ذلك أن كل ما له علاقة بالإجماع الإنساني كالسياسة، على سبيل المثال، يجب ألا يتسم بالثبات، وبالإمكان هجره حين يتغير العالم ويتبدل، فالسياسة بما أنها سلسلة من المعالجات المؤقتة لمشكلات إنسانية طارئة  يجب ألا تكون منظومة من المبادئ الكونية الصالحة لكل زمان ومكان، فهي قبل كل شيء معالجات مؤقتة وجزئية وموضعية لصعوبات أو لشرور طارئة. فما كان صالحا وناجعا في حقبة معينة ومنجزا ليس بالضرورة أن يكون صالحا لأخرى، فلكل زمن وبيئة احتياجاته المختلفة، ولعل الفكاك من التخبط والعجز اللذين لازمانا أمدا طويلا لن يتأتى إلا من خلال آليات مؤقتة لتقليص الشرور الإنسانية أو محوها كالاستبداد أو الظلم أو الفقر أو التعذيب أو الإبادة، شريطة ألا نقدس إحداها ونجعلها طوطما لا يمس.

back to top