لم تكن مصادفة اتصال قائد الثورة الإسلامية في إيران الخميني برئيس الاتحاد السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف في عام 1989 على نحو ينتمي شكلا ومضمونا إلى العصور الوسطى، فيرسل إليه خطابا يقترح فيه، بعد تسجيله نقدا للنظرية الاشتراكية في ثلاثة أسطر، على غورباتشوف قائمة بفلاسفة وعلماء مثل ابن سينا والرازي يتوجب عليه إن أراد خلاصا معرفيا وإيمانيا الرجوع إليها، مختتما نصائحه بضرورة تجنب السوفيات نهج الغرب وقيمه، وتكرّ سبحة السنين ويسير محمود أحمدي نجاد، أكثر الرؤساء الإيرانيين التصاقا وقربا للمرجعية الدينية، على الخطى الخمينية في عام 2006 بإرساله خطابا للرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، متخماً بالمصطلحات العقائدية والإيمانية، يخبره فيه أن الليبرالية والأسلوب الغربي في الحياة وصلا إلى مرحلة الاحتضار، وأن على الرئيس الأميركي اختيار طريق الهدى.

Ad

والصحيح أن هذين الحدثين، بجانب الفرائد الكثيرة للنظام الإيراني وقادته، يميطان اللثام عن تفكير خارج عن مساقات التاريخ، ويكشفان عن معمار عقائدي وتقني ينبذ روح العصر ويمقتها، ولكن الصحيح أيضا أن الخطابين يتقصدان الإفصاح بجدية عن جوهر نظام يجمع للمرة الأولى في التاريخ بين حكمي العمامة والنسر أو بين رجل الدين والعسكري معا، وبطريقة كاريكاتورية عن أن بالإمكان تعميمه، بطريق مختصر على القطبين الجبارين ومن ثم إرساء ركائز مشروع خلاص نهائي أو طوبى جديدة تتعلق بها قلوب البشر ومشاعرهم قاطبة.

وهبوط النظرية الدينية السياسية الإيرانية على عالمنا المعاصر يتوجب ألا يغفل العناصر الكثيرة المتشابهة التي تتوخى الأهداف عينها في حكمي العمامة والنسر، فكلاهما استبدادي لا يقبل من المجتمع وأفراده سوى الطاعة المطلقة، وتختفي تحت وطأته أي صيغة للتعاقد الاجتماعي لتحل بدلا منها علاقة متماثلة كتلك التي تربط رجل الدين بأتباعه والجنرال بجنوده، بكل ما تنطوي عليه تلكما العلاقتان من خنوع وامتثال غير مشروطين، وفي الوقت الذي لم يعرف فيه التاريخ طرازا من النظرية السياسية متسلحاً بالمنبر والبندقية بكل شراستهما وذئبيتهما، فإنه من اليسير تخيل مفاعليهما والنهايات التي تبلغها مساراتهما.

 فالمآل الذي تسوق نظرية كهذه الأفراد إليه يتمثل بمسخهم إلى محض أجساد طيعة خاوية جماجمها من التفكير، فالحكم الديني والعسكري مناهضان للعقل والحرية، وبالتالي فإنهما يعزلان الفرد عن مجتمعه وقضاياه، وينزلان عليه العقوبة لمجرد التفكير الحر أو النقد، فهما يبغيان منه أن يكون مجرد مردد لأصداء أصواتهما، وبالتالي يُحرمان عليه المشاركة في صياغة مصاير مجتمعه.

 فالحقيقة يحرسها رجل الدين ويتكفل العسكري بمهمة التأكد من انصياع الجماهير لها وتأديبهم عند الضرورة، والتاريخ يوضح أن هذا الضرب من الأنظمة حين يستولي على السلطة فرادى أو متحالفين، لا يتعمدان إلا بدماء التنويريين والمفكرين الأحرار والشجعان المناهضين للاستبداد، ويتجلى البؤس بأشد معانيه حين تتوهج الأيديولوجية الضيقة التي يؤسس لها حكم العمامة والنسر مصحوبة بإيمانه المَرَضِيّ بخطورة الأفكار المختلفة والرؤى المغايرة... فذاك هو التعبير الأبرز عن الانحطاط حضاريا وأخلاقيا.