في الحلقة السابقة انتقل أمين الهنيدي مع أسرته إلى القاهرة، والتحق بمدرسة شبرا الثانوية، وهناك شارك في جميع الأنشطة المدرسية بما فيها فريق التمثيل، حيث أدى دور البطولة في مسرحية "مريض الوهم" لموليير، ضمن مسابقة لفريق التمثيل المسرحي على مستوى مدارس القاهرة.

Ad

وعقب التحاق أمين بكلية الآداب "جامعة فاروق" الإسكندرية، عم الفرح الأسرة، في حين شعر أمين بالحزن على ترك القاهرة، والابتعاد عن فرصة اللقاء بعملاق الكوميديا نجيب الريحاني.

في اليوم الأول له بجامعة الإسكندرية، ذهب أولا إلى شؤون الطلاب، ليسجل اسمه ويدفع المصروفات، وبدلا من أن يتجه بعدها إلى مدرج الكلية ليحضر أولى محاضراته، اتجه إلى مسرح الكلية، ليسأل عن فريق التمثيل الخاص بها، ظنا منه أنه الوحيد الذي اتجه إلى المسرح، وحتما سينتظر حتى يظهر له من يدله على فريق التمثيل، إذا ما كان هناك بالفعل فريق تمثيل للكلية.

اكتشف أمين أن فريق التمثيل داخل المسرح، بعضهم فوق خشبة المسرح، وبعضهم الآخر يجلس في الصالة، ولم تكن دهشته لمجرد أنه وجد فريق التمثيل موجودا بالكامل في مسرح الكلية، منذ اليوم الأول للدراسة، بل إن دهشته الكبرى أنه وجدهم يقومون بعمل بروفة على إحدى المسرحيات، وفي ما يلي تفاصيل الحلقة الثالثة من سيرة الفنان أمين الهنيدي:

حصلت مدرسة شبرا الثانوية على المركز الأول على مستوى مدارس المنطقة التعليمية، وتم تصعيدها للمنافسة على مستوى الجمهورية، فشعر أمين بأنه أصبح مؤهلا لأن يذهب لمقابلة الفنان نجيب الريحاني ليفي بوعده، فمن المؤكد أنه سيرحب به، خاصة عندما يعرف بالنجاح الذي حققه في مسرحية "مريض الوهم"، واقتناصه المركز الأول لمدرسته، غير أنه فوجئ بأن الأستاذ في رحلة فنية خارج القطر المصري، وأنه لن يعود قبل ثلاثة أشهر، ما أصاب أمين بالإحباط، خاصة أنه سيضطر إلى مغادرة القاهرة بعد ظهور نتيجة البكالوريا، ليلحق والأسرة بوالده هناك.

رغم حزن أمين على ترك القاهرة، والابتعاد عن فرصة اللقاء بعملاق الكوميديا نجيب الريحاني، فإنه فرح بنجاحه في البكالوريا، وانتقاله من مرحلة التعليم الإلزامي، إلى التعليم الجامعي، حيث تقدم بأوراقه إلى كلية الآداب "جامعة فاروق" ـ الإسكندرية ـ فعم الفرح الأسرة لالتحاق أمين بالجامعة، ومن المؤكد أنه خلال سنوات قليلة سيصبح مدرسا مرموقا، غير أن ما قلب الأفراح حزنا ورعبا، الغارات الجوية التي لم تنقطع ليل نهار، والأخبار التي أكدت وصول الألمان إلى العلمين.  

خلال أغسطس عام 1942، وقعت مجموعة من المعارك في منطقة العلمين ـ 112 كم غرب الإسكندرية ـ كانت من أهم معارك التحول في الحرب العالمية الثانية، بل من أهم معارك الدبابات على مدار التاريخ، حيث انتصرت فيها قوات الألمان، غير أن مشكلتهم الرئيسة كانت في النقص الكبير في الوقود بسب إغراق البريطانيين لحاملة النفط الإيطالية، ما شل حركة تقدم الدبابات، وبالتالي استطاعت القوات البريطانية التصدي لهم وطردهم من العلمين إلى ليبيا، بل ومن كل إفريقيا وصولا إلى مالطة، لتكون بداية الخسائر التي لحقت بالألمان، لخسارة الحرب بشكل كامل.

استقبال خاص

لم يكن استقبال الإسكندرية لأمين كما توقع، حيث راح يمني نفسه قبل أن تطأ قدماه "عروس البحر المتوسط" بحياة أخرى تمناها طويلا، وحلم بها بعد أن سمع عنها طويلا، رغم أن الثمن كان الابتعاد عن مسرح نجيب الريحاني، فوجد أمين أن اضطراب الأوضاع وقلق والدته من الحرب، ربما يكون سببا في ترك الإسكندرية والعودة إلى القاهرة، غير أن والده حسم هذا الأمر بشكل نهائي:

= بلاش كلام فاضي، أنا مش شغال في طابونة (مخبز) المسألة دي منتهية.

- أيوا يا سي عبدالحميد... لو مش خايف عليّ وعلى نفسك... لازم نخاف على العيال.

= وهم ولاد الناس اللي في إسكندرية دول مش زي عيالنا... ولا هانسيب البلد للألمان والإنكليز ونهج... الموضوع ده انتهى ومش عايز كلام فيه تاني... وبعدين أمين خلاص قدم في جامعة فاروق هنا ومش هاينفع نسيبه لوحده.

في اليوم الأول الذي دخل فيه أمين من باب كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، ذهب أولا إلى شؤون الطلاب، ليسجل اسمه ويدفع المصروفات، وبدلا من أن يتجه بعدها إلى مدرج الكلية ليحضر أولى محاضراته، اتجه إلى مسرح الكلية، ليسأل عن فريق التمثيل الخاص بالكلية، ظنا منه أنه الوحيد الذي اتجه إلى المسرح، وحتما سينتظر حتى يظهر له من يدله على فريق التمثيل، إذا ما كان هناك بالفعل فريق تمثيل للكلية.

اكتشف أمين أن فريق التمثيل بأكمله داخل المسرح، بعضهم فوق خشبة المسرح، والبعض الآخر يجلس في الصالة، ولم تكن دهشته لمجرد أنه وجد فريق التمثيل موجودا بالكامل في مسرح الكلية، منذ اليوم الأول للدراسة، بل إن دهشته الأكبر أنه وجدهم يقومون بعمل بروفة على إحدى المسرحيات، فجلس على كرسي في آخر صالة المسرح يتابع البروفات في هدوء، منتظرا انتهاء البروفة ليقترب ويقدم نفسه للمسؤول عن فريق التمثيل، ليعرض عليه الانضمام لهم.

وجد أمين أن المسرحية التي يقومون بالبروفة عليها باللغة العربية الفصحى، هي "أهل الكهف" تلك التي كتبها الكاتب توفيق الحكيم قبل 10 سنوات، أي في عام 1933، والتي اعتبرت وقت صدورها حدثا مهما في تاريخ المسرح المصري، حيث اعتبرها عدد كبير من النقاد والمسرحيين بداية لنشوء تيار مسرحي جديد يعرف باسم "المسرح الذهني"، ذلك المسرح الذي يتسم بقدر كبير من العمق والوعي، ويكتشف القارئ أو المشاهد له، عالما من الدلالات والرموز التي يمكن إسقاطها على الواقع، لتسهم في تقديم رؤية نقدية للحياة والمجتمع.

اكتشف أمين أنه أمام نوعية مختلفة من المسرح، لم يرها سواء في ما قدمه في مسرح المدرسة، كما لم يرها حتى في مسرح نجيب الريحاني، بل إنه شاهد نوعية مختلفة من الفنانين الهاوين المحبين للمسرح، والذين يتعاملون مع الأمر بجدية، ربما شاهدها في مسرح نجيب الريحاني، لكن مع اختلاف نوعية الممثلين، فلا مجال هنا للضحك أو الكوميديا، سواء فوق خشبة المسرح، أو حتى بعيدا عنها، شباب من هواة المسرح يتعاملون مع الأمر بجدية وحرفية عالية، ما جعله يشعر أنه ربما سيكون غريبا بينهم.

ما إن انتهت البروفة، حتى تقدم أمين على استحياء، ممن استشعر أنه كبيرهم، وقدم له نفسه وعرض عليه أن ينضم لفريق التمثيل، فكانت المفاجأة الترحيب غير العادي الذي قابلوه به، كأنهم كانوا في انتظاره:

= أقدملكم زميلكم الجديد في آداب.. أمين عبدالحميد الهنيدي.. لسه طازة أول يوم له النهارده في كلية الآداب.

- أهلا وسهلا.. اتشرفنا.

ـ أهلا بك نورت المسرح... ونورت جامعة مولانا.

* الشرف ليا... أنا سعيد جدا إني اتشرفت بكم.

= شوف يا سيدي... ده فيلسوف الفريق الزميل محمود مرسي... تانية آداب قسم فلسفة.

* أهلا وسهلا اتشرفنا.

= وده توفيق صالح لسه طازة زيك سنة أولى آداب إنكليزي، بس توفيق معانا من قبل ما يدخل الكلية.

* أهلا أهلا.. اتشرفنا.

= وده الزميل فرج صالح، برضه آداب فلسفة... وأحمد أنور آداب اجتماع... يعني كلكم كده على بعض مؤدبين.. من أهل الآداب ومن أهل إسكندرية... الغريب الوحيد اللي بينكم هو العبدلله.. مخرج الفرقة... واسمي يا سيدي إلهامي حسن... من مصر.

- ما تكمل التعارف يا أستاذ.

= لا لحد هنا وكفاية.

- لا مش كفاية... الأستاذ إلهامي يا سيدي مخرج من معهد مشتهر الزراعي... والأهم بقى إن خاله يبقى الرجل الوطني الاقتصادي الكبير طلعت باشا حرب.

* الله أكبر.. طلعت باشا حتة واحدة... يبقى خالك لزم.

- أيوا يا سيدي يبقى خال والدته... يعني خاله... ووالده عمدة كبير... بس حضرة العمدة مش راضي عن حبه للفن... وكان أمله يبقى مهندس زراعي يشرف على أرضه الزراعية... لكن مافيش فايدة.

* دا أنا ليا عظيم الشرف وحظي من السما أني اتعرفت عليكم... وبالمناسبة أنا مش إسكندراني... وإن كان شرف ليا... لكن أنا من مواليد المنصورة... والبكالوريا من مدرسة شبرا الثانوية بمصر.

لم يستغرق أمين وقتا طويلا في الانخراط وسط هذه المجموعة، التي سرعان ما انضمت إليهم الفنانة الشابة نيللي مظلوم، ابنة الإسكندرية، من أصل يوناني، من خلال دراستها في كلية الآداب، كما تركهم المخرج إلهامي حسن، وسافر إلى إنكلترا لدراسة فن المسرح، وتولى الإخراج للفرقة الفنان محمود مرسي، فركز أمين بشكل كامل مع فريق التمثيل، وقدم معهم عددا كبيرا من المسرحيات العالمية، لسوفوكليس وموليير وشكسبير، وبعض المسرحيات العربية، حتى أنه خلال أشهر قليلة، أصبح أحد أشهر أعضاء الفريق، حتى كان من جراء ذلك أنه رسب في عامه الأول بالكلية، ما سبب حزنا كبيرا في الأسرة التي لم تكن تعلم بنشاطه في التمثيل الذي أصبح شغله الشاغل، فضلا عن عدم حب أمين لقسم الفلسفة الذي التحق به في الكلية، الأمر الذي انعكس عليه بشكل سلبي، ما استدعى وقفة حاسمة من الأسرة حول ما سموه "ضياع ابنهم"، فلم يجد أمين بدا من مصارحتهم بعدم ميله للفلسفة والفلاسفة، وأنه قرر أن ينتقل إلى قسم الاجتماع، غير أن عدم حبه للفلسفة لم يزد عنه لقسم الاجتماع، ما كان سببا في رسوبه للعام الثاني على التوالي، فكان قراره، رغم معارضة الأسرة، بترك كلية الآداب، والتحويل إلى كلية الحقوق، بجامعة فاروق.

عودة الوهم

انخرط أمين الهنيدي في عمله مدرسا للتربية البدنية في مدرسة الرشاد، و"ضابطا لطابور الصباح" الذي يعمل على ضبط  الطابور وربطه، فاقترب كثيرا من التلاميذ، كأنه واحد منهم، في مثل عمرهم، فأحبوه وأحبهم، حتى سارت حصة التربية البدنية، هي المفضلة لدى كل تلاميذ مدرسة "الرشاد"، سواء المرحلة الابتدائية، أو الثانوية، حيث تحولت "حصة" التربية الرياضية إلى وقت للغناء والجري ولعب الجمباز، وممارسة كل الأنشطة المحببة للتلاميذ، فذاع صيت "الأستاذ أمين" بين كل مدارس مدينة المنصورة، حتى تمنى كل تلاميذ بقية المدارس، الالتحاق بمدرسة "الرشاد" لينالهم هذا الحظ.

وما إن استقر أمين في عمله مدرسا للتربية البدنية، وبدأ راتبه يزداد من عام لآخر، حتى وجدت والدته أن الوقت قد حان، لتفرح بابنها وتزوجه، خاصة أن جميع من هم في مثل عمره قد تزوجوا بالفعل، بل وأنجبوا، فاختارت له واحدة من بنات إحدى عائلات المنصورة، غير أن أمين فاجأها برأيه:

* ليه؟

= وده سؤال يا ابني... زي كل الناس ما بتتجوز وتفتح بيوت وربنا يرزقهم بالخلف الصالح.

* وبعدين أموت وأسيبهم!

= أعوذ بالله... ليه بتقول كده يا ابني؟ هو في حد أمه تكلمه في الجواز علشان تفرح بيه... يقوم يكلمها في الموت؟

* مش دي الحقيقة... أتجوز وأخلف ولاد... وبعدين أسيبهم وأموت يتعذبوا في الدنيا.

= مين بس اللي دخل الكلام ده في دماغك؟ وإذا كنت باصص لأبوك الله يرحمه... ده عمره انتهى لحد هنا... وكل واحد له عمر.

* ما يمكن أنا كمان عمري ينتهي أول ما أتجوز وأخلف... لو سمحتي يا أمي اقفلي الموضوع ده دلوقتي.

تفرغ أمين لعمله مدرسا للتربية البدنية نهارا في مدرسته، ثم يقضي فترة المساء، بصحبة عدد من الأصدقاء القدامى ممن لم يتزوجوا مثله، متنقلين بين متنزهات وحدائق المنصورة، ثم قضاء فترة السهرة في "نادي الموسيقى"، يستمعون للموسيقى والغناء، فضلا عن أنه خصص يوم الخميس الأول من كل شهر، للنزول مع نفس صحبة الأصدقاء إلى القاهرة، من أجل دخول الأوبرا الملكية، ومشاهدة ما تيسر لهم رؤيته من أعمال مسرحية، غير أن زيارة القاهرة هذه المرة، كان لها مذاق خاص، ولم تكن فقط للتنزه، بل لرؤية "مصر الجديدة"، بعد أن نجح الجيش المصري في الإطاحة بالنظام الفاسد في 23 يوليو 1952.

لقاء الحبيب

كان من بين برنامج الرحلة الذي وضعه أمين، زيارة مسرح الريحاني، الذي اعتاد التردد عليه خلال العامين الأخيرين، بعد أن ذاع صيت بطل الفرقة الجديد الفنان الشاب عادل خيري، نجل الكاتب بديع خيري، الذي ولد وتربى في كواليس المسرح، وما إن أنهى دراسته، حتى دفع به والده للفرقة، ليعيد معها تقديم تراث الريحاني وبديع خيري، فقدم "أحب حماتي، اللي يعيش ياما يشوف، إبليس وشركاه، ياريتني ما اتجوزت، الستات لبعضهم، أوعى تعكر دمك، استنى بختك، و30 يوم في السجن"، والتي شاهدها أمين جميعها، فرغم ابتعاده عن احتراف التمثيل، فإن الهواية لاتزال تغلي بداخله، ويتحين الفرصة ليخرج بخار هذا الغليان، فاستطاع خلال العامين الأخيرين أن يصبح على علاقة وطيدة بعدد من أعضاء الفرقة، إضافة إلى صداقة فنانين آخرين من خارج الفرقة، حتى أنه أصبح يحضر العروض دون "تذكرة دخول"، وأحيانا عندما يكون بمفرده، يمكن أن يشاهد العرض من الكواليس.

على رأس من اقترب منهم في مسرح الريحاني الفنان الكبير عبدالعزيز أحمد، أحد أعمدة فرقة الريحاني كممثل، كما تولى إخراج العديد من المسرحيات لعادل خيري، بعد رحيل الريحاني، فاقترب منه أمين، حتى فاجأه في هذا اليوم بما لم يتوقعه:

* أنت بتقول إيه يا أستاذ... أنا... أنا يا أستاذ؟

= أيوا أنت يا أمين... أنت مش نفسك في الفرصة دي من زمان... يلا ورينا شطارتك... أهي الفرصة جت لحد عندك

* أيوا بس يعني.

= أنت هاتبسبس... يلا استعد أنت مش بتقول حافظ الرواية كلها.

* لكن الأستاذ بديع والأستاذ....

= ماتشلش هم حاجة... أنا كلمت الأستاذ بديع... وكمان عادل موافق... ده شاب حتة سكرة.

أخيرا تحقق حلم أمين الهنيدي، ووقف لأول مرة على خشبة المسرح التي سبق أن وقف فوقها نجيب الريحاني، وقدم مع الفرقة مسرحية "خليني أتبحبح يوم"، تأليف بديع خيري ونجيب الريحاني، وبطولة عادل خيري، وماري منيب، وميمي شكيب، وسعاد حسين، ونجوى سالم، وعباس فارس، تمثيل وإخراج عبدالعزيز أحمد.

حصل أمين على إجازة من وظيفته، للمشاركة في المسرحية، التي حقق من خلالها نجاحا كبيرا، رغم صغر دوره فيها، حتى أنه لم يلفت أنظار أعضاء الفرقة فقط، بل لفت أنظار الجمهور، وعدد كبير من الفنانين والمهتمين، غير أن فرحته لم تكتمل، فبعد سبع وعشرين ليلة عرض، توقف عرض المسرحية، لارتباط الفرقة برحلة خارج القطر المصري، لكن قبل أن يتملك الحزن منه لضياع الفرصة، أرسل له القدر مفاجأة جديدة لم يكن يتوقعها، فما إن نزل من فوق خشبة المسرح، حتى وجد رجلا في انتظاره في كواليس المسرح، يعرفه أغلب الفنانين، اقترب منه كأنه صديق قديم، وقدم له نفسه:

= أنا يا سيدي اللي عايقولوا عليه المذيع الصعيدي.

* الله... الأستاذ فهمي عمر... طبعا عارفك من صوتك.

= عال خالص... قوم بينا نشربوا شاي ع القهوة اللي جنب المسرح ونتكلموا كلمتين.

اصطحب الإذاعي فهمي عمر، أمين الهنيدي إلى المقهى المجاور للمسرح، وفاتحه في ما لم يخطر له على بال:

* مسرح إذاعي... دي فكرة ما تخطرش على بال الأبالسة.

= عشت الله يحفظك.

* لا مؤاخذة يا عم فهمي... ماعرفش أنك صاحب الفكرة.

= هو مش بالظبط... لكن تقدر تقول كده إن فكرة البرنامج طقت في دماغي... وبعدين تفرق دمها بين القبائل... يعني جت حتة من عبدالمنعم مدبولي، على حتة من سمير خفاجي... على فتفوتة مني.. وفتفوتة من أخوك يوسف عوف... وهلم جرا... وأنا طبعا اللي هأقدم البرنامج.

* وأنا هايكون دوري إيه بالظبط؟

= أنت مأزم الدنيا ليه... هانشوفلك شخصية طبعا... ماتشلش هم... أنت خامة جيدة يا أمين من ساعة ماشوفتك أنا ومدبولي واحنا قلنا هو ده... ومن ناحية الشخصية ماتقلقش.

* أنا مش قلقان... بالعكس أنا طاير من الفرحة... أنا بس كان عندي فكرة شخصية ظريفة.

= ومستني إيه ما تقول.

* شوف يا سيدي... هو واد فلاح عفريت... فلاح عامل فيها فهلوي... لا وكمان اخترت له اسم "الواد فهلاو" سايق الهبل ع الشيطنة... وعامل فيها ساذج وعبيط... إنما هو جن مصور.

= يا وقعتك اللي زي بعضها... ومستني إيه قوم بينا هانقابل مدبولي وسمير خفاجي.

أمين التلميذ مدرساً في مدرسة الرشاد

رغم ضياع عامين من عمر أمين برسوبه المتكرر في كلية الآداب، فإن ذلك لم يمنع تفاؤل الأسرة بالتحاقه بكلية الحقوق، التي يطلق عليها "كلية الوزراء"، فربما وجد نفسه من خلالها، غير أن أمين كرر في كلية الحقوق ما فعله في الآداب، التحق بفريق التمثيل بالكلية، وتفرغ له، ما كان سببا في رسوبه أيضا في العام الأول، ولم يكن أمامه سوى الالتحاق بمعهد التربية الرياضية، الذي يبدو أنه وجد فيه أخيرا ضالته، فقرر أن يترك موهبته جانبا، ويتخلى ولو مؤقتا عن الجري خلف حلم العمل بالتمثيل، ما كان سببا في اجتياز سنواته الأربع من دون رسوب، ليحصل أخيرا على شهادته العليا يتخرج مدرسا للتربية الرياضية، غير أنه قبل أن يحصل على شهادة تخرجه، كان قرار جديد من مصلحة السجون بنقل عبدالحميد بالعودة إلى المنصورة.

حمل أمين الهنيدي شهادة تخرجه فرحا، وقبل أن يذهب إلى أسرته في المنصورة، قرر النزول إلى القاهرة، ليذهب أولا إلى الفنان نجيب الريحاني، يزف له خبر تخرجه في الجامعة، وأنه أصبح جاهزا ليفي الريحاني بوعده تجاهه، غير أنه قبل أن يصل إلى شارع عماد الدين، كان الخبر قد سبقه، فما إن وصل إلى المسرح، حتى علم أن الضاحك الباكي نجيب الريحاني قد رحل.

حزن أمين الهنيدي حزنا شديدا بفقد الريحاني، فرغم أنه لم يتحدث معه سوى مرة واحدة في طفولته، وعده خلالها بأن يعمل معه في فرقته عندما يشتد عوده، إلا أنه اعتبر ذلك وعدا سيفتح أمامه باب المستقبل نحو التمثيل، وبرحيل الريحاني، شعر بأنه قد أغلق الباب.. وربما إلى الأبد، وزاد من حزنه عودة ذلك الإحساس الغريب بشبح الموت يرفرف حوله، وأن هذا يمكن أن يكون نذيرا بدنو أجله، خاصة أن والده أيضا لم يمر على وجوده بالمنصورة عدة أيام حتى توفاه الله، ما زاد من حزنه، وإحساسه بأن الموت قد يفاجئه في أي لحظة.

عاش أمين في المنصورة مستسلما لهذا الإحساس، غير أنه قبل أن يمر عليه عدة أشهر، كان خطاب تعيينه مدرسا للتربية البدنية قد وصله، وأنه تم إلحاقه بمدرسة "الرشاد" التي قضى بها مرحلة تعليمه الابتدائي، ليعود تلميذ الأمس إلى مدرسته اليوم معلما.

البقية الحلقة المقبلة