ما قل ودل: إهدار استقلال القضاء كان خطيئة الزند الكبرى

نشر في 20-03-2016
آخر تحديث 20-03-2016 | 00:00
 المستشار شفيق إمام كنت عاكفا مساء يوم الجمعة 11 مارس، على كتابة مقالي المنشور على هذه الصفحة يوم الأحد الماضي استكمالا لمقالي المنشور يوم الأحد قبل الماضي والذي يتعلق بمشروع أحمد الزند "عقاب والدي الإرهابي"، عندما وقع الزند نفسه في هذا المساء في خطيئة أخرى في مقابلة له على إحدى الفضائيات هي: "سأحبس.. هاسجن.. سأسجن"

كلمات ثلاث رددها وزير العدل، وقد افتقد الأدب والحكمة والرصانة، وهو يتوعد كل من يخطئ في حق الدولة، فتوعد النبي، عندما قال "سأحبس أي مخطئ في حق الدولة... إذا لم يكن هؤلاء مكانهم السجون فأين سيكون مكانهم... أنا هاسجن أي أحد حتى لو كان النبي عليه الصلاة والسلام، أستغفر الله العظيم... سأسجن المخطئ أياً كانت صفته".

مظاهرة القضاة

لذلك لم أكن أتوقع هذه البيانات التي أصدرها بعض القضاة، من نادي قضاة مصر ومن بعض نوادي الإقليم، والتي أعلنوا فيها تضامنهم مع الوزير الزند، وأنهم يتمسكون ببقائه في منصبه.

توقعت أن يثور هؤلاء القضاة الذين أصدروا هذه البيانات ليس لدينهم ونبيهم فحسب، بل حماية للعدالة واستقلالهم وكرامتهم اللذين أهدرهما وزير العدل عندما اختزل القضاء في شخصه، وأنه سوف يحبس ويسجن كل مخطئ في حق الدولة، وكأنه الحاكم بأمره في كل محاكم مصر يصدر أوامره لقضاتها كلهم فيأتمرون بأمره ويحكمون بقضائه.

كما فعل قضاة فرنسا عندما ثاروا لكرامتهم واستقلالهم في يناير 1971، فلأول مرة في تاريخ فرنسا يسير ثمانمئة قاض وألف محام بملابسهم الرسمية في مظاهرة في شوارع باريس، وهي المظاهرة التي سترد فيما يلي:

دعوة القضاة إلى العنف المضاد

كما كانت دعوة الزند للقضاة إلى القصاص لكل شهيد بعشرة آلاف فرد، وإلى أن الإعدام سوف يطول أربعمائة ألف، خطيئة أخرى لأنه وجه رسالة إلى كل قاض بأن يستخدم العنف المضاد، بدلا من الحكم بالعدل.

فضلا عن توعده الصحافيين الذين يتناولونه هو وأسرته بالنقد، بالسجن والحبس، وهو السياق الذي وقع فيه توعده النبي بالسجن والحبس لأن لا أحد فوق القانون! إلا هو بطبيعة الحال فهو الحاكم بأمره!

ذكرتني هذه الدعوة وتلك بالأزمة السياسية في فرنسا التي فجرها "رينيه نوماسيني" سكرتير عام الحزب الديغولي الحاكم في خطاب ألقاه في حفل للصحافيين في يناير عام 1971، فانتقد أحكام القضاء التي لا تصدر بعقوبات صارمة ضد مثيري الفتنة والشغب، كما انتقد المذيعين في الإذاعة والتلفزيون، فيما يقدمونه من برامج تخدم هؤلاء الذين وصفهم بأنهم أعداء الحرية.

وكانت قد انتشرت في فرنسا جماعات ترتكب العنف في الشوارع وتحتل المباني العامة وتكسر المحلات وتحرق السيارات، وهي كلمة استنكرها بليفين وزير العدل آنذاك وبومبيدو رئيس مجلس الوزراء، الذي دافع عن رجال القضاء وقامت الدنيا ولم تقعد في فرنسا كلها، وداخل الحزب الحاكم نفسه، الذي تسببت كلمة سكرتيره العام في إحراجه أمام الشعب، ذلك أن فرنسا التي تستبيح ازدراء الأديان، باعتبارها إحدى الحريات العامة التي يتمتع بها الفرد، أقام شعبها الدنيا ولم يقعدها، عندما تعارضت حرية الرأي والتعبير التي كان يحتمي بها موسيفيني في خطابه، مع استقلال القضاء وحماية العدالة.

وكانت المظاهرة التي خرج فيها القضاة والمحامون، احتجاجا على خطاب موسيفيني، واعتذر موسيفيني في رسالة وجهها إلى رئيس مجلس الوزراء.

استقلال القضاء

إن استقلال القضاء في مفهومه الصحيح ليس استقلال السطلة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية والذي يتكفل به مبدأ الفصل بين السلطات، بل استقلال كل قاض ولو كان قاضيا فردا بما يفصل فيه من منازعات وما يصدر من أحكام وقرارات، وأن حظر التدخل في أعمال القضاء لا يقتصر على السلطتين التشريعية والتنفيذية، بل يشمل كذلك رجال القضاء أنفسهم، بمن في ذلك رؤساء المحاكم أعضاء المجلس الأعلى للقضاء بل هذا المجلس، وأنه لا تجوز مراجعة هذه الأحكام والقرارات إلا من خلال طرق التظلم والطعن المقررة قانونا، ومن ثم فإنه يمتنع على وزير العدل التدخل في القضايا أو إصدار أي توجيهات للقضاة، ولو كان ذلك تلميحاً أو إيحاءً، باعتباره أكثر من غيره من أعضاء السلطة التنفيذية فهماً وإدراكاً لطبيعة استقلال القضاء.

حماية العدالة

واستقلال القضاء ليس غاية في ذاته، بل غايته حماية العدالة، يقول المولى عزّ وجل "وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ"، ويقول سبحانه مخاطبا الرسول صلى الله عليه وســـلم: "وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ".

ويقول الرسول صلى الله عليه وســلم: "عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة"، ويقول أبو مسلم الخولاني: "إذا عدلت مع أهل الأرض جميعا وجُرت في حق رجل واحد فقد مال جورك بعدلك".

تلك هي الآيات الكريمة، النبع السامي الذي يستمد منه القضاة أحكامهم إذا خلو إلى أنفسهم للمداولة في هذه الأحكام.

وفي ظلال العدل الذي هو أسمى الغايات وأنبلها قصدا يصدر القضاة أحكامهم والمتهم وديعة بين أيديهم ليحكموا في أمره بالعدل الذي هو أعز المقدسات وأغلاها، وهم فيما يصدرونه من أحكام مدينون لربهم ولأنفسهم بما يعتقدون أنه الحق الخالص، سواء أرضي وزير العدل أم سخط، وسواء أوافق حكمهم هوى الوزير أم انحرف عنه، فليس ينبغي للقاضي أن يصدر، فيما يرى من حكم، عما يقوله الناس فيه أو ما يمكن أن يقولوا فيه.

يقول المولى عز وجل "وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ"، والعدل هو أسمى ما أنزله.

خطيئة لا يقع فيها وزير عدل

إنها خطيئة لا يقع فيها وزير عدل في أي بلد في العالم، يؤمن باستقلال القضاء، بل العكس هو الصحيح، عندما تقع أزمات سياسية بين دولتين أو أكثر بسبب أحكام قضائية صدرت ضد مواطني إحداهما، فإن وزير العدل والحكومة في الدولة التي صدرت فيها هذه الأحكام يعتصمان باستقلال القضاء، وإن الحكومة لا تتدخل في أحكام القضاء، ولا سلطان لها على القاضي في قضائه.

أما أن يعلن زير العدل أنه سوف يحبس ويسجن، ثلاث مرات في ثلاث جمل وفي مقابلة تلفزيونية، سوف يشاهدها العالم كله، فهي خطيئة كبرى، أوقع فيها مصر وقضاءها وسيادة القانون فيها في مأزق دولي، وفي مأزق دستوري وقانوني، ذلك أن معنى هذا أن وزير العدل يتدخل في القضايا، وأنه لا استقلال للقضاء في مصر، وأن الأمر يسير على هوى الوزير.

لقد كانت هذه الخطيئة التي وقع فيها الوزير كافية لإقصائه من منصبه، ولو لم يتوعد النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن هذا التوعد كان القشة التي قصمت ظهر البعير.

back to top