امرأتان (1 – 2)
أحياناً يصدف أن تنشغل بقراءة كتابين في الفترة نفسها، لتجد– ويا للغرابة – أنهما يلتقيان في مجرى واحد أو يشتركان في قضية واحدة كتوأمين سياميين!وهذه المصادفة قد تفتح في ذهنك شهية المقارنة والمقاربة، محمولا على بساط من الدهشة والرغبة في تفكيك هذه المصادفة التاريخية النادرة.
كنت أقرأ لغوستاف فلوبير روايته "مدام بوفاري" في فترة ما قبل النوم، أما فترة الصباح، فقد كنت أقرأ صفحات من حياة الكاتبة الإنكليزية "جورج إليوت". ولا أدري لماذا رأيت في شخصية "مدام بوفاري" التي اصطنعها فلوبير وجعلها نموذجاً للمرأة المتمردة على التقاليد والأعراف، صورة شبه مطابقة لحياة الكاتبة الروائية جورج إليوت، إن لم تكن هي مع بعض الاستثناءات.وسوف يزداد هذا التقمص بين الشخصيتين وضوحا إذا أخذنا بعين الاعتبار معاصرة فلوبير لجورج إليوت وميلادهما ووفاتهما في الفترة التاريخية ذاتها بل السنة ذاتها. فقد عاشت جورج إليوت ما بين 1819 و1880م، بينما عاش فلوبير ما بين 1821 و1880م. وكانت الأولى إنكليزية والآخر فرنسياً، ترعرعا في بيئة متقاربة ثقافياً واجتماعياً.ولعل هذه الملابسات التاريخية والظرفية قد تدفع المتأمل إلى فرضيتين: الأولى أن فلوبير ربما استلهم سمات شخصيته الروائية "مدام بوفاري" من سيرة "إيليوت" الذائعة الصيت حينذاك، ليس كشخصية أدبية فقط وإنما كشخصية "فضائحية" متمردة كما وصفت في فيلم وثائقي أعدته قناة بي بي سي البريطانية. أما الفرضية الثانية فيمكن إرجاعها إلى الحراك الثقافي والاجتماعي الذي كانت أوروبا وآدابها تتهيآن له أواخر القرن التاسع عشر، ويأتي على رأس ذلك التهيؤ للخروج من سطوة الكنيسة وسجن الخطاب الديني وتقاليد العصر الفيكتوري وأعرافه المتزمتة. وحيث إن كلا الكاتبين كان رمزاً من رموز تلك الفترة ، فليس بمستبعد أن تبدأ تباشير التمرد والتغيير لديهما، سواء على مستوى لغة الخطاب الأدبي أو مستوى الموقف الحياتي. أما التحرر على مستوى الموقف الحياتي فقد كانت "جورج إليوت" بطلته بلا منازع، وكان موقفا باهظ الثمن بلا شك، متمثلا في الصراعات والمعارك الشخصية التي خاضتها امرأة بمفردها ضد ما لا تعتقده صحيحا في الدين أو الممنوعات الاجتماعية أو العلاقات الإنسانية. وحصدت من وراء ذلك قطيعة الأسرة واستنكار المجتمع واشتعال النميمة حول سوء السمعة والسيرة (الفضائحية) لامرأة متمردة. ولعل إرهاصات التنشئة والثقافة والتوقد العاطفي والوجداني كانت جميعا تعتمل في نفسها كشرارة تتهيأ للاشتعال. عرفت ماري آن إيفانز، وهذا اسمها الحقيقي، حياة أسرية بين رفع وخفض في أحد مقاطعات الريف الإنكليزي. ورغم نشأتها الدينية المتزمتة في بداية حياتها، فإنها باتساع القراءة والثقافة في الفلسفة والشعر واللغات والعلوم، والانفتاح على الأوساط الأدبية وتكوين العلاقات، بدأت رؤيتها للمعتقدات الدينية تخضع للنقد والتفكيك في محاولة للنظر لما هو أبعد من الغشاوات والخرافة والخيال. وقد كان لإعلانها هذا الموقف من الكنيسة ثماره الفجة على علاقتها بأسرتها التي انتهت بالقطيعة والهجران.أما علاقاتها بالوسط الثقافي فقد فتحت أمامها فرصا ثمينة للتعارف والقرب ممن يشبهونها ويلائمون مزاجها المنفتح.ويبدو أن توقدها الوجداني وافتقادها مشاعر الحميمية في الوسط الأسري كان يدفعها مرارا وتكرارا إلى الوقوع في علاقات عاطفية فاشلة أو غير ملائمة. ولعل ما يزيد الأمر مأساوية لامرأة في مثل رهافتها ومشاعرها المحتدمة أن تكون دميمة الوجه مفتقرة إلى تناسق الملامح ودقتها، الأمر الذي لم يترك لها متسعا في قلوب الرجال، على الرغم من جاذبية حديثها وروحها التي يبدو أنها لم تشفع لها في معظم الأحوال.وأخيرا سنحت الفرصة لماري آن إيفانز أن تقع في حب صحافي مغمور هو جورج لويس، ثم لتأخذها هذه العلاقة المستحيلة اليائسة – لكونه متزوجاً – إلى أقصى حدود التمرد، حين قررت الارتباط به رغم كل الموانع الدينية والاجتماعية. وهكذا انفتحت شهية المجتمع الفيكتوري المتزمت إلى النيل من سمعتها واعتبارها فضيحة أخلاقية تسير على قدمين.في رعاية جورج لويس وتقديره لكتاباتها بدأت مواهبها تزدهر وتتفتح، فقد كتبت أول رواية لها تحت تأثير تشجيعه ودعمه، ولكنها ترددت بعدئذ في وضع اسمها على غلاف الرواية، لما رأته من علامات الرفض والاستنكار لسيرتها ووجودها، فارتأت أن توقعها باسم رجل طمعاً في الالتفات والتقدير في مجتمع لايزال اسم الرجل وليس المرأة هو مقياس للتقدير والتفوق. وهكذا دشنت ماري آن إيفانز أول وأهم أعمالها الروائية باسم مستعار هو "جورج إليوت"، وكان حدسها في محله، فقد نالت الروايةشهرة وإقبالا كبيرين، وظل الناس فترة طويلة يتساءلون عن ماهية هذا الروائي المبدع ومن يكون!