بعد وقفتنا السابقة مع سيرة الكاتبة الإنكليزية جورج إليوت، وإمكانية تأثر الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير بهذه السيرة أثناء كتابته روايته "مدام بوفاري"، نعود في هذا المقال للحديث عن شخصية "مدام بوفاري" في الرواية وتقصي وجوه التشابه والتقارب.

Ad

 لم تكن "إيما" الجميلة الرقيقة منذ نشأتها الأولى تبدو فتاة قانعة بقدرها، فقد جعلها حسّها المتوقد، وذكاؤها الفطري، وتطلعاتها الغامضة نحو حياة أكثر ثراءً وزخماً، في حالة دائمة من القلق والترقّب. وما كانت بيئتها الريفية البسيطة، وبُعدها عن جو المدن ورفاهها بقادرَيْن على إسكات التوق المتحفز في داخلها إلى تجريب حياة أكثر عنفواناً وصخباً. ويبدو أن بذرة الرغبة في الانعتاق من الاعتيادية كانت تتشكل بتؤدة أثناء قراءاتها في التاريخ والأدب والرواية، وأثناء إصاختها لأحلامها ورغباتها، وأثناء تشكّل عواطفها المحتدمة في سن اليفاعة الأولى.

 وحين جاء شارل بوفاري خاطباً لها، وجدت إيما في الزواج –ربما– بوابة للخروج إلى عالم أرحب، وخاصة حين اصطحبها الزوج ذات دعوة إلى حفلة راقصة، فأجّج ذلك في نفسها الطموح إلى الحياة الراقية، وإلى أنوار المدن الأكثر انفتاحاً وصخباً. كيف لا وهي الشابة الجميلة المثقفة والأنيقة والمتطلعة إلى ما هو أبعد من حياة ريفية راكدة، وزوج خامل الذكر بليد المشاعر، قانع بحياة روتينية بسيطة لطبيب لا تخرج اهتماماته اليومية عن زيارة مريض وتناول وجبة ساخنة والخلود إلى النوم باكراً؟!

 وهكذا يبدأ انجذاب "مدام بوفاري" إلى حياة العواطف والعلاقات، مدفوعة بذلك النداء الفطري الممضّ إلى أن تسخو بمشاعرها وأن تستقبل مثلها، إرضاءً لذلك الشغف بالحياة والحب. وكانت البداية مع "ليون" الذي شغفها حباً صامتاً ومتمنعاً انتهى بالفراق، تماماً كما انتهى بالنسبة لها بالعذاب والمرض والانهيارات النفسية. وما كادت إيما تتعافى من هذا الهيام حتى وقعت بكل هشاشتها واحتياجها في مصيدة "رودولف" المحنّك المغرم باقتناص النساء، فكانت صيداً سهلاً ومواتياً.

 تستمر العلاقة مع رودولف لفترة من الزمن، إلى أن يبدأ الملل يدبّ في نفسه دون أن يحاول إخفاءه، ثم ينتهي الأمر برحيله المفاجئ، تاركاً إياها للمرض والحسرة والعلل النفسية. بعد فترة من النقاهة وميول التديّن والروحانية الطارئة، تلتقي "ليون"، مصادفة، أثناء حضور أحد العروض المسرحية، فيحاول تجديد ما كان بينهما من شغف سالف، فستجيب "إيما" بعد تردد، بل تبذل في سبيل ذلك كل ما تملك من وقت ومال، دون إدراك للعواقب. وأخيراً تجد مدام بوفاري نفسها متخمة بالديون والاستحقاقات، بعد أن باعت عقار الأسرة في سبيل متعها وتنقلاتها وعطاياها، في الوقت الذي كانت العلاقة بين الاثنين تسير تدريجياً نحو الاضمحلال والتصنّع والملل. وفي نهاية المطاف تُغلَق كل أبواب الرجاء أمام مدام بوفاري، فتختار أن تتناول الزرنيخ لإنهاء حياتها المرتبكة الصاخبة، وهذا ما كان.

 قد تبدو هذه الأحداث أشبه بميلودراما مستهلَكة من منظور عصرنا الراهن، أو ميلودراما مكررة في المسلسلات والأفلام الهندية، ولكن الرواية في عصر صدورها ومكانه كانت تشكل علامة فارقة، وذلك لسببين؛ أولهما أنها في نزعتها الواقعية المحضة كانت تؤسس لمزاج أدبي جديد، في عصر كان ما يزال يستظل بظلال الرومانسية. وثانيهما أن هذا النوع من الكتابة الجريئة كان يشكّل تحدياً لأعراف المجتمع وتقاليده المحافظة.

 ولعل تاريخ الأدب يحفظ لنا من ضمن ما حفظ تلك المحاكمة الشرسة التي رفعتها النيابة الفرنسية ضد غوستاف فلوبير وروايته، بتهمة الإساءة إلى الأخلاق والدين، وكيف امتلأت مرافعة الاتهام بكل صور السخط  والغضب على مقاربات كهذه رُئي أنها تحضّ على الانحلال وتسيء إلى الأخلاق العامة. وهكذا ظل السجال دائراً بين محامي الاتهام ومحامي الدفاع الذي نجح أخيراً في تخليص فلوبير من التهم المنسوبة إليه، مفسحاً بذلك الطريق أمام الرواية الجدلية لتكون علامة فارقة في مسيرة الأدب وسيرة المجتمع الذي كُتبت فيه.

 وأخيراً، قد تكون "مدام بوفاري" في تمردها وخروجها عن النسق الاجتماعي، تقترب أو تبتعد عن شخصية الكاتبة الإنكليزية جورج إليوت. ولكن تبقى أمام المتأمل فرضية التزامن والمعاصرة في زمان ومكان كانا يضجّان بالمتغيرات ويرهصان بالولوج إلى مزاج أدبي واجتماعي جديد.