فجر يوم جديد: «الأم بهية»!
قتلني الفضول لأتعرف إلى صورة «الأم» في أفلام المخرج يوسف شاهين (1926 – 2008)، وكنت على يقين بأنني سأراها لديه في صورة غير تقليدية لا نألفها كثيراً في السينما العربية، «أم» تشبهه في جنونه وتمرّده وثوريته واستنارته.عكفت فوراً على قراءة أفلامه الطويلة (نحو 37 فيلماً أولها في عام 1950 وآخرها في عام 2007)، وبقدر استمتاعي باستعادة ذكرياتي مع بعضها فإن سعادتي كانت كبيرة، وأنا أرى وجوهاً وملامح تتشكّل على الشاشة، وتصنع صورة جريئة للأم التي لا تقترب منها السينما كثيراً! بالطبع، اختلفت صورة «الأم» في سينما يوسف شاهين باختلاف وعيه، وتطوّر لغته، ونضج أسلوبه. لكنه لم يتخل يوماً عن انحيازه، وتعاطفه، وإيمانه، وثقته المفرطة في «الأم» التي لا تقل أهمية وتأثيراً عن الأب/ الرجل. في فيلمه الأول «بابا أمين» (1950)، الذي كتب قصته وأخرجه وهو في الرابعة والعشرين من عمره، نرى الأم «زهيرة» (ماري منيب) التي تعيش في الحارة الشعبية، ولا تكف عن ترديد الأمثال الشعبية، لكنها الأم التقليدية التي تحنو على زوجها، وترغب في تزويج ابنتها، وتتمنى لو حققت رغبات طفلها. وبعد رحيل الأب، عليها أن تتحمّل المسؤولية كاملة، تماماً كما فعلت الأم «فكرية» (ليلى مراد) في «سيدة القطار» (1952) التي تدفع ثمن نزوات زوجها المقامر، وتتستر عليه بعد استيلائه على بوليصة تأمين تؤكد وفاتها، ومثلما اضطرت إلى التخلي عن حلمها كمطربة تختفي من حياة ابنتها وتعمل خادمة في مدرستها لتكون قريبة منها، وتتألم وهي ترى أن إدمان زوجها يكاد يحطم مستقبل ابنتها، وفي اللحظة التي يُهيأ للمشاهد أنها ستقتله يأبى «شاهين» أن يلوث يديها، ويترك للقدر مهمة التخلص منه!
قد يقول قائل: «لكن شاهين قدّم صورة رجعية للأم في فيلم «الأرض» (1970) من خلال «أم وصيفة» (نبوية سعيد)، زوجة «محمد أبو سويلم» التي تقبع في الظل، ولا تفعل شيئاً سوى أن تطبخ وتخبز، وترد على الرجال من خلف ستار»! الحقيقة أنه فعل ذلك التزاماً بواقع فرضته حقبة الثلاثينيات من القرن العشرين التي تناولها فيلم «الأرض»، ولم يكن من المنطقي أن يُسبغ رؤيته التقدمية على تلك الفلاحة أو الحقبة، وإلا نزع عن هذه وتلك المصداقية المنشودة، بدليل أنه فعل ذلك في الوقت والظرف المناسبين عندما اختار اسم «بهية» (محسنة توفيق) لبطلة فيلم «العصفور» (1972)، حيث جسدت دور «الأم» القوية الإيجابية التي تتحمّل مسؤولية تربية ابنتها عقب تخلي والدها عنها، في إسقاط واضح على أحوال مصر في فترة الستينيات من القرن العشرين، وعندما تُدرك خطورة ما ينتظر الوطن، في أعقاب إعلان «عبد الناصر» قرار التنحي، تنتفض غاضبة، وتقود التظاهرات الرافضة للسلبية والانهزامية وهي تهتف: «حنحارب»! المثير أن شاهين كان يحلو له أن يُطلق اسم «بهية» على «الأم» التي يرى فيها «مصر» المضحية من دون انتظار المقابل، والمتفانية بمثالية. في فيلم «الآخر» (1999)، تخشى الأرملة «بهية» (لبلبة) على ابنتها «حنان» من سطوة الأغنياء ورجال الأعمال، وتُصدم بابنها الإرهابي الذي ولد في كنفها. وفي حين بدت مغلوبة على أمرها، فإن «بهية» (هالة فاخر) في فيلم «هي فوضى ؟» (2007) كانت مثالاً للأم القوية التي تستميت دفاعاً عن ابنتها، وتواجه السلطة في عنفوانها. وكعادة شاهين يأتي الاغتصاب بمثابة الرمز والإسقاط على ما يحدث من انتهاكات، والدافع إلى التنوير، فالأم تسعى إلى الثأر مهما كلفها الأمر، وتقود الحشود الغفيرة بعد ما تنجح في تثويرها وكأنها زعيمة، على عكس الأم «رتيبة» (هدى سلطان) في فيلم «عودة الابن الضال» (1976) التي تطمح إلى السلطة وتمارسها فعلاً، وتكون سبباً في التكالب عليها، والتناحر لأجل الفوز بمغانمها، فهي رب العائلة وتُمسك بزمام الأمور محاولةً لم الشمل قبل أن ينفرط العقد، وتؤجج الصراع وتقود إلى الحرب الأهلية».المتعجل في الحكم على «الأم» (سهير البابلي) في فيلم «حدوتة مصرية» (1982)، يتصوّر أن شاهين يحاكمها ويعريها بينما الحقيقة أنه شديد التعاطف مع أزمتها، كطفلة زوجوها في سن مبكرة من رجل أكبر منها بثلاثين سنة، فاستغل جهلها واغتصبها. لكن التعاطف بلغ ذروته تجاه الأم «صَديقة» (داليدا) في «اليوم السادس» (1986) التي تضحي بكل شيء في سبيل شفاء طفلها من وباء الكوليرا الذي اجتاح مصر في أربعينيات القرن العشرين. وبعدها يمجد «شاهين» دور «الأم» من خلال «زينب» (صفية العمري) في «المصير» (1997) التي تهيئ الأجواء لزوجها «ابن رشد» قاضي القضاة كي يُحصل العلوم ويساعد طلبة العلم، وترعى جميع أفراد العائلة، وتُحرض شبابها على الثورة، ولا مانع لديها من الحلم بالحكم والسلطة!