في حقبة الستينيات، وقف النظام الناصري بكل ما أوتي من قوة خلف شعار «صُنع في مصر»، وقطع شوطاً كبيراً فعلاً ليجعل الحلم حقيقة والشعار واقعاً، عبر مجموعة إنجازات هائلة صنعت ملحمة اقتصادية وثقافية لم تتكرر منذ ذلك الوقت!
تذكرت ما جرى في الستينيات وأنا أتابع الدورة الخامسة لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية (17 – 23 مارس 2016) من وقائع خُيل إليَّ، وأنا أضعها بجانب بعضها البعض، أنها تصنع ملحمة فنية وثقافية شعارها «صُنع في الأقصر». منذ اللحظة الأولى، بدا وكأن ثمة إصراراً من مؤسسة «شباب الفنانين المستقلين»، التي تنظم المهرجان، على «التفكير خارج الصندوق»، بدليل اختيار معبد حتشبسوت بالدير البحري لافتتاح الدورة الخامسة واستقبال الضيوف، فضلاً عن الدقة والانضباط في وضع ثم تنفيذ برنامج وفقرات الاحتفال، حسب المُعلن سابقاً في وسائل الإعلام، رغم صعوبة تحرّك الضيوف من الفندق المخصص لإقامتهم عبر المراكب الفرعونية، وانتقالهم بعد وصولهم إلى البر الغربي إلى معبد حتشبسوت، عن طريق الحافلات. وبمجرد أن بدأ الافتتاح، جاءت الفقرات شديدة الاتساق مع هذه الرؤية الخاصة. على غرار عروض الصوت والضوء عند سفح الأهرامات بالجيزة، وفي المعابد الفرعونية بصعيد مصر، رحبت الملكة حتشبسوت بالضيوف، ومن بعدها عزفت الفنانة العالمية منال محيي الدين مقطوعات موسيقية مستعينة بآلة الهارب ذات الجذور الفرعونية. ومثلما تمّت الاستعانة بفرقة رضا للفنون الشعبية لتقدم فقرات راقصة تواكب المناسبة والمكان، حرصت إدارة المهرجان على الاحتفاء بفرقة طبول «داجار أبيكان» من دولة ساحل العاج، ووجهت الدعوة لعدد من وزراء الثقافة الأفارقة لحضور الاحتفال، ولبى الدعوة فعلاً وزيرا ساحل العاج والسودان، بالإضافة إلى وزير ثقافة الدولة المضيفة مصر، فالمزج بين المصري والإفريقي أضاف رونقاً وبهاءً وجمالاً على الاحتفال الذي جاء فريداً من نوعه.ما نوّهت إليه حول «الأفكار خارج الصندوق» تجلى بوضوح مع بدء أعمال الدورة الخامسة للمهرجان، وفي لحظة وصول النجم العالمي داني غلوفر إلى مطار الأقصر، حيث جرى ترتيب استقبال شعبي للنجم الذي عُرف ببطولة السلسلة الفيلمية الشهيرة «السلاح القاتل» مع ميل غيبسون بدور شرطيين يحاربان عصابات التهريب والمخدرات، وعلى عكس السائد والمألوف والمتبع في المؤتمرات الصحافية تنظّم عادة لنجوم الشرف والمشاهير، كانت المفاجأة أن اختارت إدارة مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية ساحة معبد الكرنك الشهير على كورنيش مدينة الأقصر ليستضيف المؤتمر الصحافي للنجم الأميركي. كان المشهد مهيباً وساحراً للغاية والنجم يجلس في مواجهة الصحافيين ومندوبي وكالات الأنباء المصرية والعربية والعالمية وكاميرات المحطات التلفزيونية المختلفة، بينما في الخلفية جدران المعبد وأعمدته الشاهقة تشهد بعظمة الأسلاف وعبقرية الأجداد. وعلى عكس المتبع أيضاً في مهرجانات تتكلّف مبالغ طائلة في دعوة النجوم والمشاهير من دون أن تعرف كيف تستغلهم وتُحسن توظيفهم، نجحت إدارة مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية في إقناع النجم غلوفر بالنزول ضيفاً على الندوة المخصصة لمناقشة كتاب «عمر الشريف في عيون الدنيا»، الذي قدّم له وحرره وأشرف عليه الناقد علي أبو شادي، وصدر ضمن أعمال الدورة الخامسة للمهرجان. حضر النجم فعلاً مع النجم المصري محمود حميدة، وتحدّث عن عمر الشريف بحب وإعجاب، وربما انبهار لم يغب عنه التواضع، وتركت مشاركته وكلماته الدافئة انطباعاً إيجابياً لدى كل من تابع الندوة.«صُنع في الأقصر» شعار نجح القيمون على الدورة الخامسة لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية في تفعيله، بدليل التغيّر النسبي الذي طرأ على علاقة رجل الشارع في محافظة الأقصر وفعاليات المهرجان، التي شهدت بعض التجاوب الجماهيري مقارنة بالدورات السابقة للمهرجانين اللذين يقامان في أحضان الأقصر، ما يعني أن التراكم أتى ثماره، والسينما بدأت تجد طريقها إلى قلب المواطن الصعيدي المعروف بصرامته وخشونته، فضلاً عن استغراقه الدائم في التجهم وميله المستمر إلى الجدية، وهي فرصة ينبغي على الجميع استغلالها لتفعيل ما يمكن تسميته «تطبيع العلاقات» بين أبناء صعيد مصر والسينما، ومن ثم الفنون عموماً، والقضاء على المركزية التي تجعل العاصمة الأولى (القاهرة)، والعاصمة الثانية (الإسكندرية)، تستأثران بالأنشطة والتظاهرات الثقافية والفنية بمعزل عن بقية المواطنين في مدن وقرى مصر ونجوعها، ممن تُحزنهم حالة التهميش والإقصاء التي يتعرضون لها ليس فقط على صعيد الخدمات الاقتصادية والاجتماعية، وإنما – وهذا هو الأخطر – على صعيد الثقافة التي تغذي الروح وتهذب النفس ولا تجد لها مكاناً في الجنوب بسبب احتكار واغتصاب أهل الشمال!
توابل
«صنع في الأقصر»!
25-03-2016