{نوم الغزلان} مسرحية جديدة للمخرجة لينا أبيض (إعدادها وإخراجها) قدمتها على خشبة مسرح {إروين} في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت.
تمثّل المسرحية لوحات مقتطعة من واقع مرّ، أعادت أبيض رسمها على المسرح بقساوتها ووحشيتها، محدثة بذلك صدمة للمشاهد رغم أن أذنيه اعتادتا الاستماع إلى مآسٍ تحيط بهذه المنطقة من العالم، ذلك أن الممثلين أتقنوا تقمص المآسي وترجمتها على المسرح.{نوم الغزلان} عبارة اقتبستها لينا أبيض من كتاب {تقاطع نيران، من يوميات الانتفاضة السورية} (دار الآداب، بيروت)، ترمز إلى الذين ينامون وعيونهم نصف مفتوحة، وقد اسقطت هذه الصورة على المواطن السوري الذي يحرمه القلق والخوف من أن ينام، وهذان الخوف والقلق ليسا وليدي الحاضر بل يعودان إلى عقود طويلة... تنبض المسرحية بحكايات أشخاص خيّروا بين الموت والحياة فاختاروا الحياة بأي ثمن، لذا يبقى الثمن باهظاً يوماً بعد يوم.عمل جماعياقتلعت لينا أبيض مسرح {إروين} من اليوم والساعة اللتين تعرض فيهما المسرحية وأطلقته في فضاءات لامحدودة، تارة في أحد السجون السورية وتارة أخرى على شواطئ اليونان أو على الحدود الألمانية، تترابط فيها الأحداث وتعود إلى عمق الأزمة وجذورها الإنسانية، غير آبهة بدين أو طائفة... فالكل واحد في المأساة.المسرحية عمل جماعي، يتحرّك فيه الجميع بدقة متناهية وفق سير الأحداث، فالممثلون من دون استثناء، غابت شخصياتهم الأصلية ولبسوا الشخصيات التي يجسدونها سواء في اللهجة أو في التصرفات، فيخال المشاهد أنه يشارك النازحين السوريين فعلاً في رحلتهم القاسية في البحر ومغامرة الموت، أو في معتقلاتهم في السجون. والمشهد اللافت الذي يخترق القلب مباشرة هو الصدمة التي تنتاب المهاجرين لدى وصولهم إلى الحدود في ألمانيا ويجدون أمامهم جداراً من الأسلاك يمنعهم من دخول البلاد. هنا ترسم تعابير وجوه الممثلين وحركة أيديهم على الأسلاك الحديد حالة مؤثرة جداً، كذلك الأمر بالنسبة إلى مشهد الزورق وحكايات الغرق والمآسي التي حصلت وسط تلاطم الأمواج...بدأت المسرحية بالنسبة إلى لينا أبيض منذ زمن بعيد خلال رحلاتها إلى دمشق وقراءتها الأدب السوري ومشاركتها في مهرجانات المسرح في مدينة الياسمين. دموع ومنفىفي خمس لوحات تتبع لينا أبيض آثار دموع السوريين في المنفى، تحديداً في مكان ما في ألمانيا، وتنتهي في مكان ما في سورية وسط عشاء حيوي عامر بالفرح والحياة، في اللحظة التي تبدأ فيها الدعوات إلى ثورة تطالب بإصلاحات عادلة وضرورية بالانتشار، أي أنها تسير عكس الزمان لتستكشف سبب أكبر كارثة إنسانية.يرافق هذه القصة صوتان: الشاعر فرج بيرقدار والكاتب ياسين الحاج صالح. يكتب الأول ليكون شاهداً على هول السجون السورية، أما الثاني فيكتب في محاولة للصبر على اختطاف زوجته سميرة الخليل قبل عامين.سميرة خليل معارضة سورية منذ ثمانينيات القرن السابق، اعتقلت أربع سنوات في عهد حافظ الأسد، قضت معظمها في سجن دوما للنساء. شاركت في معظم أنشطة المعارضة السورية منذ أيام ربيع دمشق، بما في ذلك جميع التجمعات الاحتجاجية في سنوات عهد بشار الأسد. كذلك في تظاهرات بعد الثورة. سميرة مطلوبة من أجهزة النظام منذ 2012. وكانت تعيش في غوطة دمشق الشرقية حتى اختطافها مع رزان زيتونة ووائل حماده وناظم حمادي في 9 -12 -2013.برأي لينا أبيض، كان يجب البدء بالمطالبة بالحرية قبل مارس 2011 بعقود طويلة، تحديداً لدى حدوث الاعتقالات الكيفية وانتهاك الحريات الفردية وتكميم أفواه المثقفين والفنانين الذين قاوموا في سجون الاعتقال كل صنوف التعذيب، مطلقين صرخة مدوية واحدة {لحمي ولا حلمي}... وقد استوحت لينا أبيض هذه العبارة من أحد نصوص فرج بيرقدار وفيه أن {مازن أبو الحلم} روى لصديقه أنه حلم بأن انقلاباً وقع في البلاد فروى لصديقه هذا الحلم الذي باح به تحت التعذيب، فاعتقل صاحب الحلم. هكذا هو حلم السوريين بالحرية.{من سجن النساء}، مسرحيتها السابقة إلى {نوم الغزلان}، تغوص لينا أبيض في المآسي المخبأة في ظلمات السجون وتحاول تقدير هؤلاء الذين أجبروا على التخلي عن إنسانيتهم وباتوا مجرد أرقام تجتر التعذيب وتنوء تحت ثقل الذل... فيختبر المتفرج أحاسيس إنسانية مختلفة، يتفاعل معها سلباً أو إيجاباً لا يهم، بل المهم أنها تحثه على التفكير، والبحث عن أفق للتغيير.صحيح أن {نوم الغزلان} تتمحور حول مأساة الشعب السوري ظاهرياً، إلا أنها في العمق تصوّر المأساة التي يعيشها كل شعب يطالب بالحرية والتخلّص من الدكتاتورية، لذا تدافعت في فكر لينا أبيض الصور خلال إعداد المسرحية، وعاشت المأساة السورية بكل ما أوتيت من حب للحرية وللكرامة، وأكثر من ذلك روت في {نوم الغزلان} حكايات عن التعذيب لم تُروَ سابقاً، سواء عن المهاجرين الذين يغرقون في البحر أو المهرّبين الذين يستغلون مآسي الناس لتحقيق أرباح طائلة، أو حتى قصص الحب التي تتلمس طريقها حتى في أحلك الظروف.وجع وسخريةفي مشاهد من مسرحيتها تعتمد لينا أبيض المونولوغ، على ألسنة سميرة خليل وياسين الحاج صالح وفرج بيرقدار، لأن رواية ما يجري في السجون لا يتقنها سوى من عاش ظلمات الاعتقال وقاسى صنوف التعذيب...في كل لوحة تتحوّل خشبة المسرح إلى عالم متكامل يجسد الأحداث بكل وجعها وسخريتها، فثمة أكثر من طرف يستغل وضع المهاجرين الاقتصادي المتردي ويبتزهم، على غرار تلك المرأة التي تعمل خاطبة، تبحث عن فتيات فقيرات لتزوجهن لرجال يكبرنهن بالسن لأجل حفنة من المال.لمعاملة الغرب للنازحين السوريين، بسلبياتها وإيجابياتها، مكان مهم في المسرحية، فوسط الأصوات الغربية التي تخرج داعية النازحين إلى العودة إلى بلادهم، تبرز الصحافية الأجنبية التي تساند النازحين وتحاول إلقاء الضوء على مأساتهم ومعاناتهم، وكأن لينا أبيض تحاول ألا تعمم الأحكام على كل الغرب، بل تحرص على تسجيل بعضاً من التفاتاته الإنسانية تجاه هؤلاء النازحين. للغناء حصة في المسرحية، فهو صوت خافت للحنين والحب يعطي بعضاً من النداوة على الأحداث المؤلمة، ويطير على نغماته الفكر إلى أماكن بعيدة... كذلك تؤدي عناصر عدة دوراً رمزياً مكملاً للأحداث، على غرار الأغطية من النايلون التي تقي النازحين المطر والبرد، والأوراق الحمراء المتساقطة من سقف المسرح في إشارة إلى سيل الدماء الذي لا ينتهي...
توابل
{نوم الغزلان} للينا أبيض... الحياة والحرية بأي ثمن
15-04-2016