العبودية المقيمة فينا

نشر في 17-04-2016
آخر تحديث 17-04-2016 | 00:00
 منصور مبارك المطيري من قاموا باستعباد الفتيات السوريات ومن استعبدوا قبلهم الأيزيديات ليسوا سوى أشخاص عرضوا أنفسهم قبلها للبيع بسوق النخاسة التاريخي، فأضحوا عبيدا تمتلكهم شخصيات وحوادث تاريخية تفصلنا عنها حواجز زمنية كبيرة، فهؤلاء الذين يشدون قيود عبوديتهم عند خطايا الماضي وفتنه، هم النسخة الأشد بؤسا من العبودية المعاصرة.

لا يمكن أن تحجب مأساة استعباد عشرات الفتيات السوريات، بقدر ما هي مروعة وفظيعة، الصورة الكبيرة للعبودية في مجتمعاتنا الأهلية، فالتعريف المعاصر للعبودية ينطوي على ممارسات وتقاليد تقع في صلب ثقافة هذه المجتمعات، ومهما انبرى أنصار السائد والمألوف في تسويغ هذه العبودية بتلاوينها المتباينة فإنها تعد علامة فارقة على العيش في طور سابق للحداثة والقيم المدنية.

 ففي الأزمنة القديمة لم يتيسر لكل حضارة أو إمبراطورية غابرة أن تنهض إلا على كدح المستعبدين والرقيق، بحيث كانت مؤسسة العبودية جزءا طبيعيا من المجتمع. ذاك أن عصوراً سابقة على القانون، كانت فيها الهزيمة في الحرب تعني حتمية العبودية للنساء والأطفال، فمن ينجُ من القتل تتربص به العبودية، ولكن ذلك يجب ألا يشتت انتباهنا عن حقيقة موغلة في الخطورة، تتمثل بأن مشكلة العبودية حاليا أعظم بكثير من أي وقت مضى في التاريخ.

إذ تقدر إحصاءات الأمم المتحدة بأن هناك ما لا يقل عن 27 مليون فرد تحت نير العبودية راهنا، وهذا الرقم الضخم يتأسس على كون مفهوم العبودية المعاصر مغايرا للمفهوم الكلاسيكي الذي يدور حول فكرة اقتناء فرد لآخر ونزع إنسانيته عن طريق تحويله إلى محض أداة، فهو يتضمن ممارسات متعددة من بينها القنانة والعمالة القسرية وعمالة الأطفال وتجارة البغاء والزواج القسري أو المبكر وبيع الزوجات والعمل بأجور زهيدة. وغني عن القول أن تعريفا كهذا يحمل تأكيدا ضمنيا على تفشي العبودية في المجتمعات العربية.

هكذا ترتسم أي مواجهة جدية للعبودية، بدءا بالتصدي للأوهام التي تخدم بتنقية الأنا وأبلسة الآخر، كإلصاق ظاهرة العبودية في المجتمعات الأوروبية حصرا، فالعرب كانت لهم الريادة في تجارة العبيد على مدى أربعة قرون ولم يكن الأوروبيون سوى عينة من زبائنهم الكثر، وقد يقال بحق إن البريطانيين انخرطوا في هذه التجارة لقرنين من الزمان إلا أنه ينظر لتجريم البرلمان البريطاني لها في مطلع القرن التاسع عشر على أنه السبب غير المباشر لتجريمها بعد ذاك في الولايات المتحدة الأميركية.

وفي الحالات جميعا لا تتعلق ظاهرة الاستعباد باللون والعرق بقدر ما هي استهداف للفئات الاجتماعية الأشد فقرا واستضعافا وتهميشا وجهلا، وهذه جميعا بمثابة الوقود الذي يمد العبودية بالحياة والازدهار في مجتمعاتنا العربية، حيث تتصاعد حالات الاسترقاق المنزلي واسترقاق الأطفال وبيع الزوجات مقابل دين. وفي أغلب الظن أن تعمل هذه الممارسات، في العمق الاجتماعي، على تثبيت الرق في الأذهان وتحويله إلى جزء جوهري من وجدان ضحاياه وسلالتهم وممارسيه وأخلافهم.

من قاموا باستعباد الفتيات السوريات ومن استعبدوا قبلهم الأيزيديات ليسوا سوى أشخاص عرضوا أنفسهم قبلها للبيع بسوق النخاسة التاريخي، فأضحوا عبيدا تمتلكهم شخصيات وحوادث تاريخية تفصلنا عنها حواجز زمنية كبيرة، فهؤلاء الذين يشدون قيود عبوديتهم عند خطايا الماضي وفتنه، هم النسخة الأشد بؤسا من العبودية المعاصرة، أما الحديث بخلاف ذلك فهو ضرب من السذاجة، وعلى الأرجح الخبث.

back to top